إنَّ نِعَم الله تحيطُ بالعبادِ مِن كلِّ جانب ومن كلّ جِهة؛ مِن فوقهم ومن تحتِ أرجلِهم وعن أيمانهم وعَن شمائِلهم، وكثرتُها ومظاهِر آثارِها لا تقَع تحت حَصرٍ؛ في البرّ والبحر والأرض والسّماء والنّفس والناس، ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون {الأعراف:10}، قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون {الملك:23}، والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون {النحل:80-83}.
عبادَ الله، وأهلُ هذا الزمان أحدَث الله لهم من النّعَم وزاد لهم في الفضل وكاثر عليهم من الخيراتِ ما لم يكن في السابِقين من أسلافهم، جُمِعت لهم النّعَمُ السابقة والنّعَم الحاضِرة، وما تأتي به المكتَشفات والمختَرعات والعلوم والمعارِف أعظمُ وأكبر في شؤون دنياهم كلِّها؛ عِلمًا واقتصادًا وفِكرًا وإنتاجًا وكَسبًا واحتِرافًا ونَقلاً واتِّصالاً وطِبًّا وعِلاجًا، نَباتًا وحَيوانًا، في المأكلِ والمشرب والملبَس والمسكَن والمركَب، فتحٌ في العلومِ والمعارف والآلاتِ والأدوات، تحسَّن بها أسبابُ المعاش، ومع كلِّ هذا لا تجِد أكثرَهم شاكرين، فَرِحين بما عِندهم من العِلم.
يجدُر بالعبد أن ينظُر ويتفكَّر في أسباب التَّقصير في الشّكرِ والدّخول في دائرةِ كُفران النّعَم والغفلةِ عنها وعدَم الإحساس بها واستحضارِ وجودها والنّظر في أثرِها، فكثيرٌ مِنَ النّعَم لا يعرِفها الإنسان إلاّ حين يفقِدها كالمصباح لا تعرِف فَضلَه إلاَّ حين ينطفِئ؛ ومِن أجلِ هذا فإنَّ رصدَ النّعَم وبذلَ الجُهد في تعدَادها والإحاطة بما يمكِن الإحاطةُ به منها ممّا يبعِد عن الغفلةِ والنكران، فيَعتَبِر بما عَرَف وأحصَى؛ ليكتَشِف كثرَتَها والعَجزَ عن الإحاطةِ بها وإحصائِها، وربُّنا سبحانه عدَّد علينا جملةً من نِعَمه في موضعين من كتابه ثمّ قال: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها {إبراهيم:34، النحل:18}، ممّا ينبِّه أنَّ علينا أن نبذُلَ ما نستطيع لتذكُّرِ نعمةِ ربّنا؛ لعلَّنا نقوم بما نقدر عليه من الشّكر والبُعد عن الغفلةِ والنّكرانِ.
وانظروا رَحمكم الله في بعضِ التأمُّلات، فلو تأمَّل العبدُ في نعمةِ الإيمان وآثارِه لانتقَل إلى الأمنِ والسّكينة والبركَةِ والرّاحة والرِّضا والصّلاح، ولو تأمَّل في نعمةِ الصّحة وتشعُّبها وآثارها لانتقل إلى نِعمٍ لا حصرَ لها من سلامةِ الجوارح والعقلِ والقوَى والحركة والمشي والعمَل والأكل والشرب والنّومِ والتعلُّم، ولو كان سقيمًا لتكدَّر عليه ذلك كلُّه وأكثر منه.
ومِن أسباب الغفلةِ عن الشكر نِسبةُ النّعمة إلى غيرِ مُورِدها والمنعِمِ بها، فتَرَاه ينسِبها إلى نفسه: إنما أوتيته على علم عندي {القصص:78} وبسبب جِدِّي واجتهادِي وكفاءَتي وصبرِي وكِفاحِي، أو ينسِبها إلى أسبابِها وينسَى مسبِّبَها وربَّها، وما بكم من نعمة فمن الله {النحل:53}. غَفَلوا فضَلّوا، وظنّوا أنَّ العلومَ والمهارات والآلاتِ هي الموجِدة والمحدِثة؛ ممّا أدَّى إلى قسوةٍ وغفلة، بل أدَّى إلى نُشوبِ صراعاتٍ وحروب. غاب عن الغافِلين أنهم وما يملِكون وما يعلَمون وما يعمَلون كلُّهم لله ومِنَ الله وبالله وحدَه لا شريكَ له، لا يملِكون ضرًّا ولا نفعًا، ولا يملكون موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين {الملك:30}، وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض {القصص:77}. والأسبابُ لا يُنكَر أثرُها ولا الأخذُ بها، ولكنّ المنكورَ الغفلةُ عن ربِّ الأرباب ومسبِّب الأسبابِ لا إلهَ إلا هو.
يا عبدَ الله، ومما يضعِف الشكرَ ويورِث القسوةَ والغفلة والجفاءَ أن يُبتلَى العبدُ بالنظر إلى ما عند غَيره وينسَى ما عندَه أو يحتَقِرُ ما عنده ويتقالُّه، ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض {النساء:32}، وفي الحديث: "انظُروا إلى من هو أسفَل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فَوقَكم؛ فهو أجدَر أن لا تزدَروا نعمةَ الله عليكم"{2}. فحقٌّ على العبدِ أن يشتغلَ وينصرف إلى ما أعطاه الله، بل إلى مَا ابتلاه الله به منَ النّعَم والفَضل، هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر {النمل:40}، ثم لتسألن يومئذ عن النَّعِيمِ {التكاثر:8}، ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات {المائدة:48}.
ألا فاتَّقوا الله رحمكم الله، واختبروا أنفسَكم، واعملوا واشكروا وافعَلوا الخيرَ وأروا الله من أنفسِكم خيرًا.
قال تعالى: الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار {إبراهيم:32-34}.
إن من آثار الشكر امتلاء القلب بالإيمان والرضا بالله سبحانه والثقة فيما عنده والشعور بالحياة الطيبة وسلامة القلب من الغل والحسد وضيق الصدر والبعد عن الاشتغال بعيوب الناس والتطلع إلى ما عندهم وما في أيديهم، ناهيكم بالشعور بالعزة والقناعة والكفاية والسلامة من الطمع وذل الحرص، ومن ثم تظهر الآثار في القبول عند الناس وحبهم ومعرفة الدنيا وقدرها ومنزلتها، بل يترقى الحال بالعبد الشكور إلى بلوغ اليقين بالله والرضا بأقداره في رزقه وحكمه وحكمته وتفاوت الناس في أعمالهم وكسوبهم، بل تتجلى حكمة الله البالغة في أنه لم يجعل مكاسب الناس وأعمالهم خاضعة لمقاييس البشر في ذكائهم وعلومهم وسعيهم.
سبحانك ربنا وبحمدك، لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
مقال لفضيلة الشيخ / صالح بن عبدالله بن حميد
ادعو لكاتبه وناقله
hgytgi uk a;v hgkul