[justify]بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه . وبعد .
فبعد انقضاء أسبوعٍ شاقٍ ومتعب من أسابيع الدراسة المُضْنية , ارتأيتُ الذهاب إلى ( عفيف ) لقضاء عطلة نهاية الأسبوع مع أهلي وأصحابي هناك , فأخذتُ ما جرت عادتي على أخذه من لوازم السفر والمبـيت , وكأنني - في عين الناظر لحالي – مقيم في دارين ! , دار العزوبية للمشقة , ودار الأهل للحياة ! .
فاخترتُ من الطرق أسهلها وأقلُّها سالكين , وكنت إذا ملّت النفسُ شوقتها للدّار , وتمثلتُ قول شاعر عفيف , وهو يصفها :
منها أقلَّـت سَلِيلُ المجدِ طائرةٌ ........ مِنْ قبْلِـهَا لم يَطِرْ جواً ولم يحمُ
وأخذتُ أطرقُ الطرقات , وأسلكُ المسالك الوعرات , فقطعتُ دار بَكر وألحقتها دار تغلب , وطُفْتُ بحمى ضَرِيَّة بنت ربيعة المَعْدِيّة , حتى انتهى بي المسير في دار والدي - حفظه الله - , وبعد طول مجالسةٍ للأهل , أشارتْ عليّ النفسُ - وقد عودتها الطاعة – بالذهاب لنزلٍ كنتُ وأصحاب الدراسة الثانوية نقصده , فنقضي فيه جُلَّ أوقات الإجازات , فلِنتُ لها وأذعنت .
وما إن أوصلتني قدميَّ إلى العنوان , حتى استنكرَ قلبي البنيان , فرأيتُ باباً ليس ببابنا , وشباكناً ليس بشباكنا , وجداراً ليس بجدارنا , وكأن أحدهم قد ضربَ داراً على دارنا , فأقام السّاس على ساسه , والباب على بابه , والجدار على جداره , أعرفهُ ولا أعرفه .
فدخلتهُ من حيثُ كنت أدخله , فإذا به في عينيَّ بلا ألوان , وإذا بي أرى أحد أصحابي القدامى قد جلس في زاويةٍ منه , فبادرتهُ بالتحية , واستقبلني بالملامة ! , فقال : ( أين كنت يا ناكر الصحبة , أم وجدتَ منا ما تكره ؟ ) .
فأخذني التأمل في حاله عن جواب سؤاله , فرأيتهُ غائر العينين , شاحب اللونين , كأنه شيخٌ هَرِمٌ صار من هم بنـاتهِ في أرق , أو كحال من كان على المُلك يوماً , وهو اليوم عبدٌ مُسْـتَرق .
فقلتُ له : ( مالكَ يا فلان كفاكَ الله الشرور ! , فإني أرى حالك لا يبعثُ على السرور ! ) , فقال : (لاشيء , حالي خيرٌ مما زعمتَ ! ) , فسألتهُ أفي وظيفةٍ أنت أم دراسة ؟ فقال : ( لا هذه ولا تلك !) , فعلمتُ من حاله ما كان يُخفي , وعلمتُ ما كانت علتهُ , إنها البطالة ! .
فقلتُ له أستثيرهُ : أتعرف فلاناً وفلان ؟ , فقال : نعم !, فقلتُ : ( مالي أراهم قد صعدوا النُّجود , وارتقوا السُّنود, وهبطتَ أنت الوُهود وآثرتَ النّزول على الصّعود , فهل يستوي الصّاعد والنّازل عند ذوي الحِجى؟ ) .
فما كان منه إلا أن نظر إلـيَّ بنظرةٍ , وأجاب بجوابين , جوابٌ سمعته , وآخر رأيته , سمعته يقول بصوتٍ منكسر : ( ويحك ! أبالتقصير يُتهمُ مثلي !؟ ) , ورأيتُ عينهُ تقول : ( الإقرار بالذنب من شيم الخيار , ولكن النفس تأبى إلا الجحود والإنكار !) , فاحترت أيُّ الجوابين اُصَدّق ؟! .
ثم نظر إلـيّ وقال في استعجال : ( ليس لي في الخير نصيب , وكلما هممتُ بشيءٍ قالوا : هل لك في المعارف والوسائط ما تنالُ بفضلهم وتُصيب ؟! ) , فاعتراني من الغضب أشده , لمِـا وجدتُ من خذلان جوابه وعذره , فقلت وأنا صادق : ( قد علمتَ من أمري أني لا أنالُ إلا ما تطوله يديَّ , وأني لو عُرِضتْ عليَّ الوساطات كلها لما قبلتُ منها شيئاً , وها أنا ذا في خيرٍ من الله ونعمة , وليس لأحدٍ عليّ منةٌ ولا نقمـة ) .
ثم طال صِماتُنا , ثم أرخيت له فشد , فأخذَ من النَفَسِ قدراً فقال : ( بعد تخرجي من الثانوية , رأيتُ أن أقضي بعض الوقت في الراحة لا الخمول , فانسلت السنةُ الأولى فثنيتها , وهاهي الثالثة تطوي صحائفها , فادعُ الله لأخيك بالتوفيق فإني قد عقدتُ العزم على الجد والطلب ) .
فقلت مسروراً بعزمهِ : وفقنا الله وإيّاك وجميع المسلمين والمسلمات لما يحبه ويرضاه .[/justify]