قصة من المغرب
Pac man
القاص حسن البقالي
..
تمتد المتاهة على مرمى البصر
يحدها من اليمين واليسار نفقان معتمان، يفضي أحدهما إلى
الآخر، ويصب في المتاهة من جديد.. في الأطراف القصية محطات
للاستراحة والانتعاش، وفي المركز تماما، قلعة منيعة هي موطن
أعداء شرسين لا يغمض لهم جفن.
- المتاهة كر وفر يا” إواتاني”
قيل له، قبل أن يكون مسلحا بما يكفي من اليقظة
- و”يا قاتل يا مقتول”.
يركض إواتاني عبر المسالك والشعاب.. يقتات من خشاش
الأرض وثمار الأشجار.. يتحين لحظة غفلة يغفو فيها واقفا،
ثم ينتفض على وقع الأقدام المتوعدة، ويستأنف
لركض.. وحيدا ومطاردا ودون بيت.. يفكر أحيانا إن كانت له
حياة قبل المتاهة.. حياة عادية لمواطن عادي يكدح ويحب وينام..
ويرزق بأبناء يهيئهم لأن يكدحوا
ويحبوا ويناموا بدورهم، ويداري بهم عجزه..
- اركض يا إواتاني.. اركض
يركض..
يتقي هجمة مميتة من عدوه الأحمر القادم من جهة الشرق.. يمرق
من طريق جانبية، فيتوه العدو عنه لفترة، لكن لا وقت لإواتاني كي
يسترجع أنفاسه، فالأعداء كثر وهجماتهم وعد لا يخلف.
رأى ثمرة توت بممر بالقرب.. الأحمر ما زال يطارده، والأزرق قرأ نواياه
بالتقاط الثمرة،فسارع باتجاه المنفذ الثاني للممر، بشكل أضحت معه الثمرة
في حرز منيع، وأضحى التقاطها معادلا لموت محقق.
لا مجال للصدفة في تحركات الأعداء
بل “لوغاريتم” صارم يوجه خططهم، يجعلها أكثر خطورة وفعالية..
وعلى إواتانيأن يعول على حدسه في مواجهة صرامة العلم.
- اركض يا إواتاني.. اركض
لن يأكل الثمرة هذه المرة..
سيتركها تتهرأ هناك، وتتلاشى عبر المسام اللامرئية لأرض
مشبعة بالمواد العضوية المترسبة من جثث القتلى السابقين.
وبالكاد، تمكن من تفاديضربة مخلب من العدو الوردي المنسل
عبر النفق في حركة مباغتة. لم يكن الأصفر بعيدا أيضا. وكان على
إواتاني أن يناور لتفادي الهجمة الجماعية المنظمة..
ركض غربا، وقام بحركة تمويهية باتجاه الشمال، قبل أن ينقلب
على عقبيه، ويشق مسربا باتجاه الجنوب.مر على أرض قاحلة شعر
بجفاف في الحلق وبعض الوهن.. وكأنما سمع قرقعة أسلحةعتيقة،
وصرخات تتلوها أنات وجع واحتضار.. فكر في أنه يدوس الآن جماجم
لمحاربين سقطوا بشرف في ساحة المعركة. “يا قاتل يا مقتول” أسر لنفسه،
وانحرف جهة استراحة جانبية هي آخر ما تبقىله من استراحات.. بسرعة
تلقف غذاءه المسعف، واستدار جهة الأعداء القادمين،
بجسد أكثر صلابة. لمحوا –دون شك- ومض العزيمة
في عينيه، وإرادة البطش، فتفككت عراهم وولوا مدبرين.
وكانت الفرصة مواتيةلأن يكر إواتاني عليهم في هجمة لا تبقي ولا تذر.
بقي وحيدا لبرهة قصيرة واستبد به إحساس بالفراغ.. ثم رأى العدو
الأول يغادر القلعة ويتجه رأسا إليه..فالعدو الثاني..
- اركض يا إواتاني
يركض
فقد ظفر بأعدائه في جولات عدة، لكن الحرب تبدو بلا نهاية. وها
هم قادمون من جديد.. بنفس الترتيب المدروس والحافز الذي لا يفتر..
هل لديه وقت للحب؟
لأن يرى شمس الغروب في عيني الحبيبة.. يبعث إليها برسائل
غامضة أقرب إلى لوحات تكعيبية، يقول لها: هذا أنا.. متشذر موجوع
وغامض الملامح والنوايا.. لكني مستعد لأن أمنحك حياتي في أية لحظة..
- اركض..
ولم يكن لديه الوقت الكافي لأن يركض
أحاطوا به من كل الجهات، بسحنات موتورة، ورغبة في الفتك
الحصار شامل، ولا منفذ أو مجالا للمناورة..
أدرك أن النهاية المؤجلة قد حلت..ولم يكن به حقد أو ضغينة،
فقط.. وقف في شموخ المحاربين.. قدم صدره العاري للضربات،
وعلى الوجه بسمة ملغزة.
***************
تمتد المتاهة على مرمى البصر
تشرق البسمة على المسالك والشعاب والأنفاق.. تغطي المتاهة
وتكشف الوجوه:لم يكن الأعداء غيره غير إواتاني الذي سقط
..
*تنويه
نقلتها من صفحة القاص والروائي المبدع (عواض شاهر)
في الفيس بوك.
...
rwm lk hglyvf