[ لمن
رامَ طهارة قلبه و
زكاة نفسه ]
نفائسُ من : " التحفة العراقية في أعمال القلوب " لشيخ الإسلام
قال شيخُ الإسلامِ أبو العبّاسِ تقيُّ الدين ِ أحمدُ بنُ عبدِ الحليمِ ابنُ تيميةَ رحمه الله و رضيَ عنهُ في رسالته المسمّاة بالتحفة العراقية في أعمال القلوب [ ط دار الفتح ، الشارقة ، 1416 ، تحقيق محمد علي الحلبي الأثري ] :
إنّ الحمدَ للّهِ نَستعينهُ و نستغفرهُ ، و نعوذ باللّه من شرورِ أنفسِنا ، و من سيّئاتِ أعمالنا ، من يهدهِ اللّهُ فلا مضلَّ لهُ ، و من يضللْ فلا هاديَ له ، و نشهد ألاّ إله إلا اللّه وحده لا شريك له ، و نشهد أنّ محمّدًا عبدُه و رسولُهُ صلّى اللّه عليه و آله و سلّمَ .
أمّا بعدُ :
فهذه كلماتٌ مختصراتٌ في أعمالِ القلوبِ ـ التي قد تسمّى المقاماتِ و الأحوالَ ـ و هي من أصولِ الإيمانِ ، و قواعدِ الدينِ ، مثلُ : محبّةِ اللّه و رسولِه ، و التوكّلِ على اللّهِ ، و إخلاصِ الدينِ لَهُ ، و الشُّكرِ له ، و الصَّبرِ على حُكمِه ، و الخوف منه ، و الرّجاءِ له ، و ما يتبعُ ذلكَ . اقتضى ذلك بعضُ من أوجبَ اللّهُ حقَّه من أهل الإيمانِ ، واستكتَبَها وكلٌّ منّا عجلانٌ .
فأقولُ :
هذه الأعمالُ جميعُها واجبةٌ على جميع الخلقِ المأمورينَ في الأصل باتفاق أئمّةِ الدين ، والناسُ فيها على ثلاثِ درجاتٍ كما هم في أعمالِ الأبدانِ على ثلاث درجاتِ : ظالمٌ لنفسه ، و مقتصدٌ ، و سابقٌ بالخيراتِ .
[ الصِّدقُ و الإخْلاصُ ]
ثم ّقالَ في الصّفحةِ التّاسعةِ فما بعدَها :
و قد ثبتَ في الصَّحيحينِ ، عن ابنِ مسعودٍ رضي اللّه عنه عن النّبيّ صلى الله عليه و سلم أنّه قال : (( عليكمْ بالصّدقِ ، فإنّ الصّدقَ يهدي إلى البرِّ ، وإنّ البرَّ يهدي إلى الجنّةِ ، و لا يزال الرّجلُ يَصْدُقُ و يتحرّى الصّدقَ حتى يُكتبَ عند اللّه صدّيقًا . و إيّاكمْ و الكذب ، فإنّ الكذب يهدي إلى الفجورِ ، و إنّ الفجورَ يهدي إلى النّار ، و لا يزال الرّجلُ يكذبُ ، و يتحرّى الكذبَ حتى يُكتَبَ عند اللّه كذَّابًا )) ، فأخبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّالصّدقَ أصلٌ يستلزمُ البرَّ ، و أنّ الكذبَ يستلزمُ الفجورَ .
و قد قال تعالى : { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ . وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [ الانفطار : 13 - 14 ] ؛ و لهذا كان بعضُ المشائخِ إذا أمر بعضَ متّبعيهِ بالتّوبةِ و أحبَّ ألاّ ينفّرَهُ و لا يشعّبَ قلبه أمَرَه بالصّدق ؛ و لهذا كان يَكثرُ في كلام مشائخ الدّين و أئمّته ذكرُ الصّدق و الإخلاصِ حتّى يقولوا : قل لمن لا يصدقُ : لا يَتّبِعْني . ويقولون : الصّدقُ سيفُ اللّه في الأَرْض ، و ما وُضِعَ على شيءٍ إلاّ قطعَهُ ، و يقول يوسفُ بنُ أسباطَ و غيرُه : ما صدق اللّّه عبدٌ إلاّ صنع له . و أمثالُ هذا كثيرٌ .
والصّدقُ و الإخلاصُ هما في الحقيقةِ تحقيقُ الإيمانِ و الإسلامِ ، فإنّ المظهرينَ للإسلام ينقسمونَ إلى : مؤمنٍ و منافقِ ، و الفارقُ بين المؤمنِ و المنافقِ هو الصّدقُ ، فإنّ أساسَ النّفاقِ الذي يبنى عليه هو الكذبُ ؛ و لهذا إذا ذكرَ اللّه حقيقةَ الإيمان نعتَهُ بالصِّدق كما في قوله تعالى : { قَالَتْ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } إلى قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 14 ، 15 ] ، و قال تعالى : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَ يَنْصُرُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ } [ الحشر: 8 ] .
فأخبرَ أنّ الصّادقينَ في دعوى الإيمان همُ المؤمنونَ الذين لم يتعقّبْ إيمانَهُم ريبةٌ ، و جاهدوا في سبيله بأموالهمْ و أنفسهمْ ، و ذلك أنّ هذا هو العهدُ المأخوذُ على الأوّلينَ والآخرينَ كما قال تعالى : { وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } [ آل عمران : 81 ] ، قال ابنُ عبّاسٍ : ما بعث اللّّه نبيًّا إلا أخذ عليه الميثاقَ لئنْ بُعث محمّدٌ و هو حيٌّ ليؤمنَنَّ به و لَيَنْصُرَنَّه ، و أمره أن يأخذ الميثاق على أمّته لئن بُعث محمّدٌ و هم أحياءُ ليؤمنُنّ به و ليَنْصُرُنَّه.
و قال تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ الحديد : 25 ] ، فذكرَ تعالى أنّه أنزل الكتابَ و الميزانَ ، و أنّه أنزل الحديدَ لأجل القيامِ بالقسط ؛ و ليعلمَ اللّهُ من ينصرُه و رسلَه ؛ و لهذا كان قِوامُ الدين بكتابٍ يهدي ، و سيفٍ ينصر ، { و كفى بربّك هاديًا ونصيرًا } [ الفرقان : 31 ] . و الكتابُ و الحديدُ و إنِ اشتركا في الإنزالِ ، فلا يمنع أن يكون أحدهما نزل من حيث لم ينزلِ الآخرُ حيث نزل الكتاب من اللّه ، كما قال تعالى : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [ الزمر : 1 ] ، و قال تعالى : { الر . كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [ هود : 1 ] ، و قال تعالى : { وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } [ النمل : 6 ] ، و الحديد أنزل من الجبال التي خلق فيها .
وكذلك وصف الصّادقينَ في دعوى البرِّ الذي هو جماع الدّين في قوله تعالى : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتَابِ وَ النَّبِيِّينَ } إلى قوله : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ } [ البقرة : 177 ] ، و أمّاالمنافقون فوصَفَهم سبحانه بالكذب في آيات متعدّدة كقولِه تعالى: { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [ البقرة: 10 ] ، و قولِه تعالى: { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ] ، و قولِه تعالى : { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [ التوبة: 77 ] . و نحوُ ذلكَ في القرآنِ كثيرٌ .
وممّا ينبغي أن يُعرفَ : أنّ الصّدقَ والتّصديقَ يكون في الأقوالِ و في الأعمالِ ، كقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الحـديث الصحـيحِ : ( كُتبَ على ابـنِ آدم حظُّه من الزّنا فهو مدركٌ ذلك لا محالةَ ، فالعينان تزنيانِ وزناهما النّظرُ ، و الأذنان تزنيان و زناهما السّمعُ ، واليدان تزنيان و زناهما البطشُ ، و الرِّجلان تزنيان و زناهما المشيُ ، و القلبُ يتمنّى و يشتهي ، و الفرْج يصدّق ذلك أو يكذّبه ) . و يقال : حَمَلوا على العدوِّ حملةً صادقةً ، إذا كانت إرادتهم للقتال ثابتة جازمة ، و يقال فلان صادق الحبّ و المودّة و نحو ذلك . و لهذا يريدون بالصّادق : الصّادق في إرادته و قصده و طلبه ، وهو الصّادق في عمله ، و يريدون الصّادق في خبره وكلامه ، والمنافق ضدّ المؤمن الصّادق ، وهو الذي يكون كاذبًا في خبره أو كاذبا في عمله كالمرائى في عمله . قال اللّه تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ و لا يذكرون الله إلا قليلا . مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا } [ النساء : 142 - 143 ] .
و أمّا الإخلاصُ فهوَ حقيقةُ الإسلامِ ، إذِ الإسلامُ هو: الاستسلام للّه لا لغيره ، كما قال تعالى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون } [ الزمر : 29 ] . فمن لم يستسلمْ للّه فقد استكبرَ ، و من استسلمَ للّّه و لغيرهِ فقد أشركَ ، وكلّ مِنَ الكبْرِ و الشّركِ ضدُّ الإسلام ، و الإسلامُ ضدّ الشّرك و الكبر . و يستعمل لازمًا و متعدّيًا كما قال تعالى : { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ البقرة : 131 ] ، و قال تعالى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 112 ] . و أمثال ذلك في القرآن كثير .
ولهذا كان رأسُ الإسلام شهادةُ أن لا إله إلا اللّهُ ، و هي متضمّنةٌ عبادةَ اللّه وحده و تركَ عبادةِ ما سواهُ ، و هو الإسلام العامُّ الذي لا يقبلُ اللّه من الأوّلينَ و الآخِرينَ دينًا سواهُ ، كما قال تعالى : { وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ }[ آل عمران : 85 ] ، و قال تعالى : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَ الْمَلَائِكَةُ وَ أُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } [ آل عمران : 18 - 19 ] .
وهذا الذي ذكرناه ، مما يبيّنُ أنَّ أصلَ الدّينِ في الحقيقةِ : هو الأمورُ الباطنةُ منَ العلوم و الأعمال ، وأنّ الأعمالَ الظّاهرةَ لا تنفعُ بدونها . كما قال النّبيّ صلى الله عليه و سلّم في الحديث الذي رواه أحمدُ في مسنده :( الإسلامُ عَلانيةٌ ، والإيمانُ في القلبِ ) [ 1 ] ؛ و لهذا قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الحديث المتّفق عليه عن النّعمان بن بشير عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلم : (الحلالُ بَيِّن ، والحرام بَيّنٌ و بين ذلك أمورٌ مشتبهاتٌ لا يعلمُهُنَّ كثيرٌ منَ الناس ، فمن اتقى الشبهاتِ فقد استبرأَ لعِرْضِه ودِينهِ ومنْ وقعَ في الشبهات وقعَ في الحرام كالرّاعي يرعى حول الحمى يوشكُ أن يقعَ فيه ، ألا وإنّ لكلّ ملكٍ حمى ، ألا و إنّ حمى اللّّهِ محارمُه ، ألا و إنّ في الجسدِ مضغةٌ إذا صلحتْ صلحَ لها سائر الجسد و إذا فسدت فسد لها سائر الجسد ، ألا وهي القلبُ ) ،
وعن أبي هريرة قال : القلبُ ملكٌ و الأعضاءُ جنوده ، فإذا طاب الملك طابت جنوده ، و إذا خبث الملك خبثت جنوده . و هذه الأعمال الباطنة ، كمحبّة اللّه والإخلاص له والتوكل عليه والرّضا عنه ونحو ذلك، كلها مأمور بها في حق الخاصّة والعامّة لا يكون تركُها محمودًا في حالِ أحدٍ ، و إنْ ارتقى مقامُه . وصلى الله وبارك
F glk vhlQ 'ihvm rgfi , .;hm ktsi D