[justify]
الفصل الأول
عقيدة الجاهلية الأولى في باب النسك
تعريف النسك في اللغة :
النُسك : "هو العبادة والطاعة وكل ما تقرب به العبد إلى الله تعالى ،ورجل ناسك :عابد . وقد نسك وتنسك : أي تعبد . والنسك والنسيكة : الذبيحة . تقول من فعل كذا وكذا فعليه نسك أي دم يهرقه بمكة شرفها الله تعالى ".
تعرف النسك اصطلاحاً :
هو الدعاء ، والاستغاثة ،والخوف ، والرجاء ، والتوكل ، والإنابة ، والمحبة ، والذبح ، والنذر ، والطواف ، وما إلى ذلك من معاني النسك ، فإذا توجه بها العبد إلى ربه كان عابداً لله سبحانه وتعالى في هذا الباب ، أما إذا توجه العبد بها لله ولغير الله ، فهو مشرك بالله وإن زعم أنه من المسلمين .
ويجدر بنا ( ونحن بصدد البحث في عقيدة الجاهلية الأولى في باب النسك ) ، أن نذكر نبذة عامة عن عقائدهم وتصوراتهم حول الأصنام والآلهة التي كانت تصرف لها بعض النسك ، ومدى عقيدة القوم في هذه الأصنام والآلهة المزعومة .
أولا ً : الأصنام عند العرب :
أصنام جمع صنم ، والصنم هو الوثن ، وجاء في الحديث : " اللهم لا تجعل قبري وثناً .." فدل على ان الوثن هو ما يباشرة العابد من القبور والتوابيت ، ويطلق الوثن على ما قصد بنوع من أنواع العبادة من دون الله ، من القبور والمشاهد وغيرها ،لقول الخليل عليه السلام : ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً﴾ ومع قوله :﴿ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ﴾ .فبذلك يعلم ان الوثن يطلق على الأصنام وغيرها مما عبد من دون الله .
وكانت هذه الأصنام عبارة عن قبور لأناس صالحين - : "
لما ماتوا عكفوا على قبورهم ، ثم صوروا تماثيلهم ، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم ، وما زال الشيطان يوحي إلى عباد القبور ، ويلقي إليهم أن البناء والعكوف عليها من محبة أهل القبور من الأنبياء والصالحين ، وان الدعاء عندها مستجاب ، ثم نقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بها ، والإقسام على الله بها ، فأن شأن الله أعظم من ان يقسم عليه أو يسأل بأحد من خلقه .
فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منهم إلى دعائه وعبادته ، وسؤاله الشفاعة من دون الله وأتخاذ قبره وثناً تعلق عليه القناديل والستور ، ويطاف به ويستسلم ويحج إله ويذبح عنده
فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته ، وأتخاذه عيداً ومنسكاً ، ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وآخراهم !
وكل هذا مما قد علم بالأضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث به رسول الله ".
أشهر أصنام العرب :
1- اللآت :أصله رجل صالح كان يلت السويق للحجاج ، فلما مات عكفوا على قبره عند صخرة مربعة أقيم عليها بناء ، وهي بالطائف ، وقامت على سدانتها ثقيف التي تشبهت بقريش سدنة الكعبة ،وبلغ من تعظيم العرب لللآت أن كانوا يسمون أبناءهم زيد اللآت ، وتيم اللآت ,
2- العُزى : وكانت نخلة على ثلاث سمرات وعليها بيت ، وهي في وادى نخلة على يمين الذاهب من مكة إلى العراق ، وكانت جنيتها امرأة عريانة ناشرة شعرها ، وكان بعضهم يفتخر بها وينتسب إليها في الحرب ، وهي من آلهة قريش ، ، وكان زيد بن عمر بن نفيل يقول : فلا العزى أدين ولا أبنتيها ، وكانوا يسمون أبناءهم عبد العزى
.
3- مناة : وكانت صنما بالمشلل من قديد وهي بين المدينة ومكة ، يهلون لها ومن أهل لها يطف بين الصفا والمروة في حجه تعظيماً لها , وكانت صنما للأوس والخزرج وغسان , و هي من أقدم الأصنام , و هي آلهة القضاء , وكانوا يسمون أبنائهم عبد مناة و زيد مناة .
4= هبل : وكان منصوباً على جب الكعبة - أي بئر الكعبة - الذي نصبه فيه عمرو بن لحي وكان من العقيق الأحمر على صورة إنسان مكسور اليد اليمنى ، فصنعت له قريش يداً من ذهب , وكانوا يقترعون عنده في بطن الكعبة , وكان إذا شعر بعضهم بالإنتصار ارتجز قائلاً : أعل هبل , وهو آلهة قريش
.
5- ذو الخصلة : وكانت بيتاً في خثعم و بجيلة , فيه نصب يُعبد يقال له الكعبة اليمانية . والكعبة الشامية , وكانت تقع بتبالة من اليمن , وكان بها رجل يستقسم بالأزلام , وكانت تعبدها دوس فيطوفون بها وتضظرب إليات النساء حولها .
6= ودّ : وكانت لكلب , بدومة الجندل . سواع : كانت لهذيل . يغوث : كانت لمراد , ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ . يعوق : كانت لهمدان . نسر : كانت لحمير : لآل ذي كلاع
.
وهي أسماء لرجال صالحين , كانوا من قبل نوح عليه السلام , فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً , وسموها بأسمائهم فلم تُعبد حتى إذا هلك أولئك وانتسخ العلم عبدت , و قد كانت هذه الأوثان في قوم نوح ثم صارت في العرب بعد . (**)
7= الفلس : كان لطي , وكانوا يعبدونه و يهدون إليه, و يعترون عنده عتائرهم - أي يتركون عنده أشياءهم تبركاً – و لا يأتيه خائف إلا آمن عنده , و لا يطرد أحد طريده فيلجأ بها إليه إلا تركت له و لم تخفر - أي تؤخذ
- .
8= سعد : كان لمالك و ملكان ابني كنانة , وكان صخرة طويلة بساحل جدة .
9= ذات أنواط : وهي شجرة عظيمة خضراء , كانت لكفار قريش و من سواهم من العرب يأتونها كل سنة فيعلقون أسلحتهم عليها , و يذبحون عندها و يعكفون عليها يوماً .
10- غنم : وكان يعبده زيد بن عمر بن نفيل عندما كان صغيراً , وكان قومه قد اتخذوه رباً .
وكان لقريش أصنام في الحجر , وصنم كبير فوق الكعبة , أما حولها فقد كان يوجد ثلاثمائة وستون صنماً ,و منهم من كان يعبد نجم الشعرى والنجوم الأخرى .
ثانيا : تصحيح المفهوم الخاطئ والذي كرس علماء الأمة وقتهم لتلقينة تلاميذهم وهو أعتقاد أن الشرك الذي وقع فيه أهل الجاهلية الأولى يقوم على أساس نفي الخالق :
و مما يجب أن يقال بهذا الصدد انه ليس صحيحاً ما قد يبدو لأول وهلة من أن الشرك الجاهلي يقوم على نفي وجود الخالق فحسب , بل إن فكرة وجود الخالق لم تفارق عموماً ذهن الجاهلي , إلا أنها ظلت فكرة سقيمة و مشبوهة خاضعة لتأثير الحس والأنفعال ولضروب شتى من الأوهام
.
فكانوا يعتقدون في الله أنه عظيم خالق الكون وحده , و مدبر السماوات و الأرض , بيده ملكوت كل شيء ,(فلئن سُئلوا من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم)
:
﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾. [ الزخرف :87 ]
و قوله تعالى : ﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ﴾ . [ يونس : 31 ] .
ولكن مع هذا كله لم يكن الجاهلي ليقوي على تصور عبادة الله العظيم إلا من خلال المحسوسات،ولهذا ما كانت أذهانهم تستسيغ أن يتطرق أحد من البشر إلى السموات العلى،ويحظى عند الله تعالى بالقبول مباشرة بغير واسطة وشفاعة،قياسا على عالم البشر وعاداته وأوضاعه الفاسدة، فبحثوا لهم عن وسطاء توسلوا بهم إلى الله، وأشركوهم في الدعاء ،وقاموا نحوهم ببعض العبادات ،ورسخت في أذهانهم فكرة الشفاعة حتى تحولت فيما بعد إلى عقيدة قدرة الشفعاء على النفع والضر ...وهكذا أنتهى بهم الأمر باتخاذهم مع الله آلهة أخرى أشركوها في عبادته ،أو قل عبدوها كعبادتهم الله، وقدسوها كتقديسهم لله لأنها بزعمهم تقربهم إلى الله زلفى !!
.
و استتباعاً لإيمانهم بالله فإنهم آمنوا بفكرة البعث والنشور- إلا قليلاً منهم = واعتقدوا بمبدأ الثواب و العقاب , و هذا ما يظهر لنا من خـلال الآيات القرآنية الآتية : كقوله تعالى :
** وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ}[ يونس : 18]
و قوله : ** مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى }[ الزمر : 3] ، ..كانوا إذا قيل لهم من ربكم وخالقكم و من خلق السماوات و الأرض و أنزل من السماء ماء ؟ قالوا الله , فيقال لهم : ما معنى عبادتكم للأصنام ؟ قالوا: ليقربونا إلى الله زلفى و يشفعوا لنا عنده . و الآيات في هذا كثيره
.
و قول شاعرهم زهير بن أبي سلمى :
فلا تكتمن الله ما في نفـوسكم ليخـفى و مهما يكـتم الله يـعلم
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ليوم الحساب أو يعجـل فينتقم .
و قول عنتر :
ياعُبل أين من المنية مهرب إن كان ربي في السماء قضاها
و لكن بالنظر للسذاجة الغالبة على عقولهم , و لشدة تعلقهم بالمحسوس لم يكن العربي ليقوى على مجابهة يوم المعاد دون أن يكون معه ناقته التي يوصي ابنه من بعده أن يدعها على قبره لعلها تحشر معه يوم القيامة فيركبها من دون الآخرين ! هو ذا [ جريبة الأشيم الأسدي ] وقد حضره الموت يقول مخاطباً ابنه :
يا سـعد إما أهلكـن فإننـي أوصـيك إن أخا الوصـاة الأقرب
لا تتركـن أباك يعثر راجـلاً في الحشر يصرع لليدين وينكـب
و احمل أبـاك على بعير صالح و أبـغ المطـية إنـه أضــرب
و لعل لي مما تركت مطية في الحشر أركبها إذا قيل اركـبوا
ثالثا : وهن عقيدة الشرك عند مشركي العرب :
إن الدارس لخصائص و مظاهر الشرك الجاهلي , يجدها عقيدة واهية الأساس , ضعيفة البنيان , تغلب عليها البساطة ، و تصدر عن عاطفة عديمة الفهم , و قلما تتغلغل إلى الأعماق , أو ترسخ في الأذهان .
و العربي الجاهلي في عقيدته تلك ,إنما تصدر عن تمسك بالعادات الجارية , و اقتفاء لأثر من سبقه إليها , وإلا فهي - أي هذه الآلهة المعبودة - لا تخرج عن كونها حجارة منحوتة , فهو لا يتورع أحياناً عن سبها و شتمها وضربها , وهذا ما فعله إمرئ القيس مع صنمه ذو الخصلة حين أراد الغارة على بني أسد , فاستقسم عنده ثلاث مرات في كل مرة يخرج له " الناهي " فكسر القداح وضرب بها وجه الصنم و قال : عضضت بإير أبيك لو كان أبوك قُتل ما عوقتني , ثم غزا بني أسد فظفر بهم !!
و هذا ما حدث مع أحد أفراد قبيلة بني كنانة , فقد كان لمالك و ملكان ابني كنانة , بساحل جدة صنم يقال له سعد , فأقبل رجل منهم بإبل له ليقفها عليه تبركاً به , فلما أدناها منه نفرت منه , فذهبت في كل وجه وتفرقت عليه , فتناول حجراً فرماه به , و قال لا بارك الله فيك إلهاً !!! نفرت علي أبلي ! ثم خرج في طلبها حتى جمعها وانصرف عنه و هو يقول :
أتينا إلى سعد ليجمع شملنا فشـتتنا سـعد فلا نحن من سـعد !
وهل سعدُ إلا صخرة بتنوفةٍ من الأرض لا يدعى لغي ولا رشدٍ
وكذلك ما حدث عند صنم لطىء يقال له الفلس , و ذلك أن رجلاً سرق ناقة امرأة من كلب من بني عُلِم , و كانت جارة لمالك بن كلثوم , فخرج في إثره , فادركه و هو عند الفلس والناقة موقوفة عند الفلس , فقال له خلّ سبيل ناقة جارتي ! فقال : إنها لربّك قال : خلّ سبيلها , قال : أتخفر إلهك ؟ فبرأ له الرمح فحلّ عقالها و انصرف بها مالك , و اقبل السادن على الفلس و نظر إلى مالك و رفع يده و قال : و هو يشير بيده إليه :
يارب إن مالك بن كلثوم اخفرك اليوم بناب يملكوم
!
يحرضه عليه , و عدي بن حاتم يومئذ قد عتر عنده و جلس هو و نفر معه يتحدثون بما صنع مالك , فقال عدي بن حاتم : انظروا ما يصيبه في يومه هذا فمضت له أيام لم يصبه شيء , فرفض عدي عبادة الأصنام و تنصر , فلم يزل متنصراً حتى جاء الله بالإسلام فأسلم .
و هكذا لا يتورع العربي الجاهلي عن أكلها - أي الآلهة – و خصوصا إذا كانت مصنوعة من التمر أو الزبيب إذا أضر به الجوع , كما و إنه لا يحجم أبداً عن سرقتها و أخذ اللبن المخصص لها , و هذا ما فعله مالك بن حارثة الأجداري يوم أن شرب اللبن المخصص لسقاية الصنم ودّ.
ولعل بعضهم ينصرف عن عبادة الحجر القديم إذا ما وجد أن ثمة حجراً آخر هو أكثر نضارة و أحدث عهداً , تماماً كما فعل الحارث بن قيس .
أجل إنما هي عاطفة دينية واهية لا تستند إلى أساس عقلي , و لعل في هذا البيت الشعري الآتي من قصيدة بشر بن أبي حازم , ما يدل بما فيه الكفاية على تفاهت عقيدة المشركين ووهنها , وعلى ضعف آلهتهم التي لم تستطع أن تدافع عن نفسها ، و لم تقوى على غائلة الثعالب ، التي ما كان يحلو لها أن تخرج فضلاتها وأبوالها إلا عند أقدام و رؤس تلك الآلهة .
إله يبول الثعلبان برأسـه لقد ضل من بالت عليه الثعالب .
وكذلك قصة عمرو بن الجموح مع صنمه , و كانت هذه الحادثة سبباً في إسلامه , يقول : - عندما وجد صنمه مرمى في وسط البئر - تالله لو كنت إلهاً لم تكن أنت وكلب وسط بئر في قرن .
رابعا : النسك التي كان يتوجه بها الجاهلي لتلك الآلهة المزعومة :
هذا ملخص لما مر معنا في بداية هذا الفصل و هي , أن المشركين كانوا يدعون الأصنام و يطلبون منهم الرزق و الولد , و الشفاء , و البركة , و كل ما يُطلب من الله سبحانه و تعالى يطلبونه من هذه الأصنام , هذا في حالة الرخاء , أما في حالة الشدة فهم لا يعرفون الأصنام و إنما يخلصون لله الدعاء , و قد صور سبحانه و تعالى حالهم عند ركوبهم البحر فقال : ** هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}. [ يونس:22 ] و يجأرون إليه عند الشدة سبحانه و تعالى :
** وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ !}.[ النحل :53 - 54 ]
و كانوا يعلقون التمائم و يعملون التولة , وكانوا يحلفون بآبائهم , و يحلفون باللآت والعزى تعظيماً و تقديساً , و كانوا إذا نشدوا قالوا : أنشدك الله و الرحم , و كانت الكهانة منتشرة فيهم , حتى إن بعضهم ليتكهن للآخر و ما يحسن الكهانة ليأخذ على ذلك خراجاً - أي أجراً - .
و كانوا يذبحون عندها و يعكفون عليها , و يعلقون عليها أسلحتهم استجلاباً للنصر , و كانوا يهلون لها , و يعظمونها و يقدسونها , حتى يسمون أبنائهم بعبد مناة , و عبد اللآت و كانوا ينذرون لها النذور و هكذا .
خامسا : النسك التي كان يتوجه بها الجاهلي لله سبحانه :
أولا : الصلاة : كان من قبيلة غفار , أبو ذر الغفاري صلى قبل أن يلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلاث سنين لله تعالى , و كان يتوجه حيث يوجهه ربه , يصلي عشاء حتى إذا كان من أخر الليل ألقى كأنه خباء حتى تعلوه الشمس .
ثانيا : الصوم : كانوا يصومون يوم عاشوراء , كما جاء في حديث عن عائشة : ( كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية ...) .
ثالثا : الإعتكاف : كانوا يعتكفون في المسجد الحرام ليلة فأكثر , كما جاء عن عمر بن الخطاب, قال قلت : ( يا رسول الله إنه كان علي إعتكاف في الجاهلية , فأمره أن يفي به ) .
رابعا : الحج : وهو من أول الطقوس عندهم , فقد كانوا يحجون مثل حج أهل الإسلام , وكانت زيارة الكعبة عندهم نوعان :
الأولى : زيارة عمرة في أي وقت ما عدا أشهر الحج , لأنهم كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور .
الثانية : زيارة البيت للحج في وقت الحج , و لم يكونوا يرون الجمع بينهما .
وكانوا يقفون بعرفة إلا قريش حيث كانوا يقفون بمزدلفة عند المشعر الحرام , و كانوا يطوفون بين الصفا و المروة , و كان الحلق والتقصير من علامات التحلل من الإحرام بعد أداء المناسك , و كانوا يعظمون الكعبة بكسوتها , و كانت تكسى يوم عاشوراء , و كانوا يرون أن الدعوة في مكة مستجابة , و كانوا يسقون الحجيج , و يفكون العاني , و كانوا يعظمون الحرم , كما في قصة خبيب , عندما أخرجوه من الحرام إلى التنعيم وهي من الحل و قتلوه فيها , ظناً منهم أن هذا من تعظيم الحرم , بل كان الرجل في الجاهلية , يقتل الرجل ثم يدخل الحرم , فيلقاه ابن المقتول أو أبوه فلا يهيّجه , و ذلك أن من دخله كان آمناً , وكانوا يعظمون الأشهر الحرم , فإذا دخل شهر رجب قالوا : منصل الأسنة , فلا يدعون رمحاً فيه حديدة , و لا سهماً فيه حديدة إلا نزعوه , و ألقوه طيلة شهر رجب !!
و قد أجمل القول صاحب الموافقات فيهم فقال : ( و كانوا يفرقون بين النكاح و السفاح , و يطلقون و يطوفون بالبيت أسبوعاً , و يمسحون الحجر الأسود , و يسعون بين الصفا والمروة , و يلبون و يقفون بعرفات , و يأتون مزدلفة , و يرمون الجمار و يعظمون الأشهر الحرم و يحرمونها , و يغتسلون من الجنابة , و يغسلون موتاهم و يكفنونهم , و يصلون عليهم , و يقطعون السارق , و يصلبون قاطع الطريق إلى غير ذلك مما كان فيهم من بقايا ملة أبيهم إبراهيم] .
وبعد : فليعلم القارئ أن الإسلام لم يكن يواجه في الجاهلية الأولى الإلحاد و لا عدم الإيمان بالله , و لكن كان و لا يزال يواجه الإنحراف في التوجه بالشعائر التعبدية لآلهة مع الله على سبيل الزلفى والقربى من الله ! أو انحراف في تلقي الشرائع من البشر في صور التحليل والتحريم بمعزل عن سلطان الله وحاكميته سبحانه و تعالى
قال تعالى :
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ﴾[النحل : 35 ]
وهاتان هما القاعدتان الرئيسيتان في الشرك في كل عصر و مصر :
أولاً : عبادة غير الله – معه أو من دونه – سبحانه .
ثانياً : والتحليل والتحريم - أي التشريع - بغير ما أنزل الله , أو قبوله من عند غير الله وهو ماوقع فيه قومنا اليوم فعبدوا الأئمة الأربعه ومن أتى بعدهم وخرقوا في الدين ماليس منه كالقواعد الفقهيه والأجماع وأتباع السلف ووووإلخ إلخ
.
الفصل الثاني
عقيدة الجاهلية الأولى في باب الحكم و التشريع
ونحن نتكلم عن المشرعين المبدلين لملة أبينا نبي الله إبراهيم عليه وعلى نبي الله محمد وأنبياء الله ورسله وملائكته أجمعين سلام الله ورحمته وبركاته ,, يجدر بنا أن نلقي الضوء على معنى [ الطاغوت ] حتى لا يلتبس الأمر و يُظن أن الطاغوت هو الشيطان فقط ! خاصة و نحن بصدد البحث والتأمل في عقائد الجاهلية الأولى , و لكي يسهل علينا كشف و معرفة الأصنام و الطواغيت المشرعين المبدلين في هذه الجاهلية المعاصرة .
قال الله : ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾. [ النحل : 36 ]
و قال سبحانه :
﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ . [البقرة : 256 ].
وقال : ﴿ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى... ﴾ . [الزمر : 17 ] .
فالطاغوت هو : [ كل ما تجاوز به العبد حده من معبود , أو متبوع , أو مطاع , فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ومابعث به رسوله , أو يعبدونه من دون الله , أو يتبعونه - على غير بصيرة من الله , أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله ] .
أقول لعل الطاغوت : كل ذي طغيان عبد من دون الله سبحانه وتعالى, ولا أرى فرق بين أن يعبد الطاغوت بناءً على رغبته هو في أن يكون آلهه أو كانت عبادته ناتجة عن مغالات أتباعة ورغبتهم في أطاعتة سواء كان هذا المعبود إنساناً أو شيطاناً , أو وثناً , أو صنماً أو كائناً من كان من شيء ... ] .
فالمراد بالطاغوت كل فرد أو طائفة أو إدارة تبغي وتستكبر عن عبادة الله , أو تتجاوز حدود العبودية , و تدعي لنفسها الألوهية والربوبية , ثم تنفذ حكمها في أرضه , و تحمل عباده على قبوله سواء كان بالإكراه أو بالإغراء , أو بالتعليم الفاسد
فاستسلام المرء لمثل تلك السلطة و تلك الإمامة , والزعامة , و تُعبّده لها ثم طاعته أياها - كل ذلك منه عبادة – و لا شك - للطاغوت
.
الطاغوت كل ما صرف العبد وصده عن عبادة الله وإخلاص الدين والطاعة له وفق مابعث به رسله وأنبيائه ،سواء في ذلك أن كان الطاغوت شيطاناً من الجن أو شيطاناً من الأنس والأشجار والأحجار وغيرها،ويدخل في ذلك بلا شك الحكم بالقوانين الأجنبية عن الإسلام وشرائعه،وغيرها من كل ما وضعه الإنسان ليحكم في الدماء والفروج والأموال،وليبطل بها شرائع الله ،من إقامة الحدود وتحريم الربا والزنا وغير ذلك مما أخذت هذه القوانين تحللها وتحميها بنفوذها ومنفذيها ،والقوانين نفسها طواغيت ،وواضعوها ومروجوها طواغيت ،وأمثالها كل كتاب وضعه العقل البشري ليعارض به الحق الذي جاء به أنبياء الله ورسله من عند ربهم..
أولاً : الطواغيت المشرعون عند العرب
:
كثير من الناس يظنون أن مواجهة الرسول محمد - في بداية الدعوة كانت مع الطواغيت الأموات , و لم يكن هناك طواغيت أحياء مشرعين مبدلين لدين أبينا إبراهيم , و لهذا سوف نذكر - بإذن الله - بعض الأمثلة من أولئك الطواغيت الأحياء المشرعين المحللين لما حرم الله ,المحرمين لما أحل الله سبحانه وتعالى , حتى تنكشف الغمة فيمن انتسب لهذه الملة و هو يشرع شرائع تُخرج فاعلها من الملة , و هذا على سبيل البيان والمثال , لا على سبيل الحصر والإجمال , كما يقال : بالمثال يتضح المقال .
ذكر ابن هشام في كتاب السيرة : ( إن عمرو بن لحي(*)خرج إلى مآرب من أرض البلقاء و بها يومئذ العماليق , فرآهم يعبدون الأصنام , فسألهم عنها , فأجابوه قائلين : هذه الأصنام نعبدها نستمطرها فتمطرنا , و نستنصرها فتنصرنا , فقال لهم : أفلا تعطونني منها صنماً فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه ؟! فأعطوه صنماً يقال له هبل , فقدم به مكة فنصبه وأمر الناس بعبادته و تعظيمه ) .
وفي رواية أخرى يقول : ( جعلت العرب عمرو بن لحي رباً لا يبتدع لهم بدعة إلا اتخذوها شريعة ...) .
و ذكر في موضع أخر أن قصي بن كعب بن لؤي أصاب ملكاً أطاع له به قومه , فكانت إليه الحجابة , والسقاية, والرفادة , والندوة , واللواء , فحاز شرف مكة كله , فكان أمره في قومه من قريش في حياته , و بعد موته كالدين المتبع لا يًعمل بغيره ...) .
و كذلك جُنادة بن عوف بن أمية الكناني : ( كان يوافي الموسم في كل عام , وكان يكنى أبا ثمامة , فينادي : ألا إن أبا ثمامة يجاب و لا يعاب , ألا إن صفر العام الأول حلال فيحل الناس , فيحرم صفر عاماً و يحرم المحرم عاماً ) .
و كذلك مالك بن نضلة الجشمي قبل إسلامه , و قبيلة غفار كذلك ممن يحلون الشهر الحرام , و يحرمون ما احل الله , و هذا النوع من التحليل والتحريم اسمه النسئ , و هو المذكور في كتاب الله تعالى :
﴿ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾.[التوبة : 37 ] .
وهذا لايختلف كثيراً عن ما آل إليه حال هذه الأمة من عبادة أئمة المذاهب والمشائخ والعلماء الذين أبتدعوا من عندهم شريعة ساقطه لا أساس لها في القرآن ولادليل عليها من النقل ولا العقل وأدخلوها في الدين وهي ليست منه في شيء بل أننا ومنذ وقت متقدم جداً دخلنا في عبادة المشائخ والعلماء كما عبد يهود أحبارهم وعبد النصارى رهبانهم يحلون لهم الحرام فيستحلونه ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه وتلك عبادتهم ..تبعاً لطواغيتهم الذين هم
هناأهل العلم (بزعمهم) وخاصته
ثانيا : نماذج من التشريعات التي شرعوها في الجاهلية الأولى :
1 - ﴿ وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَـذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـذَا لِشُرَكَآئِنَا ﴾[ الأنعام : 136 ] .
2 - ﴿ وَقَالُواْ هَـذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء﴾[ الأنعام : 138] .
3 - ﴿ أَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ﴾[ الأنعام : 138 ].
4 - ﴿ وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَـذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء﴾[لأنعام ]
5 - سيبوا السوائب : والسائبة هي الناقة التي تسيب بنذرها لآلهتهم فترعى حيث شاءت , ولا يُحمل عليها شيء , و لا يجز صوفها , و لا يحلب لبنها إلا لضيف . قيل: وكان الرجل منهم إذا قضيت حاجته سيب من ماله ناقة أو غيرها لطواغيتهم وأوثانهم .
6- و بحروا البحائر: و البحيرة هي الناقة التي يبحرون أذنها أي يشقونها شقاً واسعاً , و كانوا يفعلون بها ذلك إذا نتجت خمسة أبطن و كان الخامس أنثى .
7- و وصلوا الوصائل : و الوصيلة هي الشاة التي تصل أنثى بأنثى في النتاج .
8- و حاموا الحمائم : و الحمي هو فحل الضراب أي التلقيح , قيل إذا أتم ضراب عشرة أبطن قالوا : حمى ظهره , و تركوه أي للطواغيت , لا يحملون عليه شيئاً .
قال الله: ﴿ مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَـكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾[المائدة :103 ] .
أجل فقد زين هؤلاء الطواغيت "المشرعين" من علماء الدين وسادة الناس وكبرائهم للعوام أن يجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً , وأن يقتلوا أولادهم خشية الإملاق , و أن يقتلوا بناتهم خشية العار , فأطاعوهم في ذلك , قال تعالى : ﴿ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ !﴾[الأنعام:137] ووبخهم الله سبحانه و تعالى على هذه التشريعات التي هي من حقه سبحانه , فقال سبحانه :
﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ ﴾[ النحل : 116 ] .
فمن ادعى لنفسه هذا الحق , حق التشريع , حق التحليل والتحريم , حق إنشاء الخطاب المتعلق بأفعال البشر على سبيل التكليف أو الوضع فقد جعل من نفسه نداً لله سبحانه , و خرج من الملة , و إن زعم أنه عالماً ربانياً أو توهم فيه الناس ذلك !! قال الله تعالى عما يشركون : ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ﴾[ الشورى : 21] ,
وقال ﴿ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾[ الأنعام : 121
[/justify]