سؤال يراودني كثيرا كلما سمعت حديثا أو قرأت خبرا عن الهيئة الوطنية لحماية الحياة الفطرية وإنمائها هو كم نحتاج هيئة وطنية للحماية والإنماء؟ هذا أولا ثم أليست ثقافتنا في أمس الحاجة إلى هيئة وطنية تحميها وتنميها؟ لاسيما مع هذا الانتشار والتنامي المريع لأعشار المثقفين الذين لهم في تعريف الثقافة واللغة والمنطق قول متفرد لم يسبقوا إليه وفهم محلق لن يلحقوا فيه، فالثقافة عند أساطينهم مشتقة من اسم القبيلة العريقة ثقيف، وتفصيل ذلك أن الحجاج بن يوسف الثقفي هو أول من نقط القرآن، وهذا عمل فتحت به أبواب المعرفة فأصبح التزود من المعرفة منسوبا إلى ثقيف التي ينتسب إليها الحجاج، ولو كان الحجاج نميريا مثلا لكانت التسمية نمارة بدل ثقافة، ولو كان سلميا لكانت سلامة، وقس على ذلك، ولأن الحجاج عرف بالقوة والسطوة والبطش فقد أفاض على الثقافة صفة يجب ألا تنفك عنها، فيجب أن تكون الثقافة قوية ساطية باطشة، فثقافة لا تتوفر فيها هذه الشروط ليست ثقافة وإنما اسمها عند التحقيق “ضعافة” ولا تسل عن مدى فصاحة هذه الكلمة لأن للإخوة رأي في لغة الضاد نفسها فكلمة “الضاد” عندهم اسم فاعل مأخوذ من الفعل ضد يضد فهو ضاد، وليس خاف ما في معنى الضد والمضادة من إشارة إلى القوة والسطوة التي يجب أن يمارسها حامل هذه اللغة، فلا تعجب بعد ذلك أن تسمع قارئهم يقرأ ” وإذ قال لقمان لابنه وهو يعضّه ” فقول لقمان لابنه تثقيف والتثقيف عندهم لا يكون إلا بالقوة وقراءة يعظه لا تؤدي معنى القوة أما يعضّه فمعنى القوة متحقق بها، أما كيف يكون القول والعضّ في آن واحد واشتغال الفم بأحدهما مانع لحدوث الأخر ؟ فهذا أمر لم يفكروا فيه بعد ولعل في جيلهم القادم من سيحل هذا الإشكال، علما أن في قراءتهم هذه دليل على أمرين أولهما أنه ليس في لغة العرب (ضاد) و( ظا ) وإنما هو حرف واحد وهو ( الظا ) قد يأتي مضعفا فيكتب بدون (عصا) وقد يأتي بدون تضعيف، وبذلك تستبعد شبهة أن المقصود بالضاد الحرف وذلك في مقولة( لغة الضاد)، أما الأمر الثاني فهو أن الثقافة والتثقيف قائمان على مبدأ القوة والإكراه ولا يوجد أبلغ من العض لفرض هذه الثقافة وإلزام الجماهير بها، وعند عقلائهم –إن كان ثمت عقلاء – أن هذا التثقيف يجب أن يتعدى بني آدم إلى الجان ويجعلون كتاب “تثقيف الجان” من الكتب المعنية بذلك ، وعند مراجعتهم في أن اسم الكتاب ” تثقيف اللسان وتلقيح الجنان” وليس الجان يأتيك الجواب الذي لا تستطيع معه إلا أن ترفع كلتا يديك تسليما للتحقيق العلمي وإذعانا لما يوصلك إليه، فكلمة (الجنان) عندهم من تصحيف الوراقين وعبثهم بتراثنا المجيد أما اسم الكتاب الحقيقي فهو ما أثبتوه وهو ” تثقيف الجان “، أما محتوى الكتاب فلا تسل عنه لأنه ليس لسؤالك أي معنى إذا علمت أنهم لم تسنح لهم فرصة قراءة الكتاب بعد.
وإياك والخلط بين ما يقوم به المشعوذون والسحرة من تسخير للجن وتسلط عليهم وبين تثقيف الجن الذي يدعو إليه الإخوة ، فبالرغم من أن الأمرين يرتكزان على القوة والتسخير والطلاسم إلا أن هناك فرقا جوهريا يجب أن يتنبه له وهو أن الساحر والمشعوذ يسخر الجن ليؤذي بهم الآخرين، أما أحبابنا المثقفون هؤلاء فغرضهم من التسخير نبيل وركيزته ومداره على أن الجن والأنس يجب أن يكونوا على درجة واحدة في التبعية لهم.
أما كون ما تقدم منطقيا أو غير منطقي فدعك من البحث فيه لأنه لا مزية عند أحبابنا للمنطق ولا لعلمه تميزه عن اللغة ومحتواها الثقافي، فمنهجهم في الاستدلال ثابت لا يتبدل فنظرتهم إلى المنطق وطريقتهم في فهم معناه هي ذات النظرة والطريقة التي فهموا بها معنى اللغة ومعنى الثقافة، فأرسطو على الرغم من كونه مؤسس علم المنطق ورائده الأول إلا أن الثورة المنطقية الحديثة التي يمثلونها قد تجاوزته بل وتجاوزت بيكون معه وتجاوزت منطقهما، ومن الأدلة الصارخة على ذلك – عندهم طبعا – أن طبيبا عربيا في شمال الرياض قد نجح في معالجة غلامين وفتاة كانوا يعانون من مشاكل في النطق بينما لم ينقل لنا مطلقا أن أرسطو أو بيكون قد عالجا ولو شخصا واحدا من هذه المشكلة !
وعلى الرغم من قوة هذه الحجج و وضوح وجه الدلالة في هذا الطرح!! إلا أن الجماهير – سامحها الله – لا تزال تجهل أطروحات هؤلاء المثقفين!! وليس هذا الموقف عدائيا بالطبع ولكن المشكلة تكمن في أن هذه الجماهير تحتاج لمكبرات ضخمة تكبر الشيء إلى عشرات أضعاف حجمه الحقيقي كي تستطيع رؤيتهم وإدراك أطروحاتهم وهذه المكبرات – وللأسف الشديد – غير متوفرة حتى الآن , وفي المقابل فإن هؤلاء المثقفين رغم عجزهم الظاهر البين عن لفت أنظار هذه الجماهير فهم مع ذلك – ولمكانتهم الثقافية طبعا – متعالون متكبرون عليها!!، والسبب الرئيس في هذا الكبر والتعالي أنهم ما يزالون يراوحون في الشبر الأول الذي ذكره بعض العلماء حينما قال: ” العلم ثلاثة أشبار من دخل الشبر الأول تكبر ومن دخل الشبر الثاني تواضع ومن دخل الشبر الثالث علم أنه لا يعلم “.
إن هذه العينة من المثقفين- أصلح الله حالها- والتي لا تكاد توافق الصواب في جل تصوراتها ولا غالب طرحها ترى أن ثقافتها فروض لا يحق لأحد الخروج عنها، على الرغم من أنها تفهم الثقافة فهما منتكسا مشوه الخلقة، وتستخدم اللغة استخداما معاقا لا يستطيع القيام فضلا عن المشي، ومنطقها الذي تحتكم إليه من الممكن أن يكون أي شيء إلا المنطق، وهي مع ذلك تعطي نفسها حجما لا تمثله في الواقع
أسماء مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد
فغضبها ورضاها مستويان لدى الجماهير, تغضب ولا يعلم عن غضبها وترضى فلا يعني هذا الرضا شيئا لأحد إلا لها وحدها، حضورها وغيابها كما قيل :
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأمرون وهم شهود
وليت هؤلاء المثقفين – إن صحت التسمية - يعلمون أنهم إذا استمرءوا هذه الحال ولم يحاولوا أن يخرجوا عنها – وليس قليلا – ليستنشقوا الهواء النقي فإنهم سيعيشون ما بقي من أعمارهم في الشبر الأول ولن يخرجوا منه إلا إلى عالم البرزخ .
الكاتب / تركي ماطر الغنامي
erhtm hgafv hgh,g