السلام عليم ورحمة الله وبركاته
وصف الجنة
قوله صلى الله عليه و سلم لأبي هريرة حين سأله عن بناء
الجنة فقال : لبنة من ذهب ، و لبنة من فضة ، و ملاطها المسك الأذفر ، و حصباؤها اللؤلؤ و الياقوت ، و تربتها الزعفران " . و قد روي هذا عن النبي صلى الله عليه و سلم من حديث ابن عمر مرفوعاً أخرجه الطبراني ، فهذه أربعة أشياء :
أحدها : بناء الجنة : و يحتمل أن المراد بنيان قصورها و دورها ، و يحتمل أن يراد بناء حائطها و سورها المحيط بها و هو أشبه . و قد روي من وجه آخر " عن أبي هريرة مرفوعاً و موقوفاً ، و هو أشبه : حائط الجنة لبنة من فضة و لبنة من ذهب ، و درجها الياقوت و اللؤلؤ ، قال : و كنا نتحدث : أن رضراض أنهارها اللؤلؤ و ترابها الزعفران " . و في مسند البزار " عن أبي سعيد مرفوعاً : خلق الله الجنة لبنة من فضة و لبنة من ذهب ، و ملاطها المسك ، فقال لها : تكلمي ، فقالت قد أفلح المؤمنون ، فقالت الملائكة : طوبى لك منزل الملوك " . و مما يبين أن المراد ببناء الجنة في هذه الأحاديث بناء سورها المحيط بها ما في الصحيحين " عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : جنتان من ذهب و آنيتهما و ما فيهما ، و جنتان من فضة و آنيتهما و ما فيهما " . و " قد روي عن أبي موسى مرفوعاً : جنتان من ذهب للمقربين ، و جنتان من فضة لأصحاب اليمين " . و في الصحيح أيضاً عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : " إنها جنان كثيرة " . و قد روي : " أن بناء بعضها من در و ياقوت " . خرج ابن لأبي الدنيا " من حديث أنس مرفوعاً : خلق الله جنة عدن بيده لبنة بيضاء ، و لبنة من ياقوتة حمراء ، و لبنة من زبرجد خضراء ملاطها المسك ، و حصباؤها اللؤلؤ ، و حشيشها الزعفران ، ثم قال لها : انطقي قالت : قد أفلح المؤمنون ، قال و عزتي لا يجاورني فيك بخيل " . و روى عطية " عن أبي سعيد قال : إن الله خلق جنة عدن من ياقوتة حمراء ، ثم قال لها : تزيني فتزينت ثم قال لها : تكلمي ، فقالت : طوبى لمن رضيت عنه . ثم أطبقها و علقها بالعرش فهي تفتح في كل سحر ، فذلك برد السحر " . و عن ابن عباس قال : كان عرش الله على الماء ، ثم اتخذ دونها أخرى و طبقهما بلؤلؤة واحدة لا تعلم الخلائق ما فيهما ، و هما اللتان لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون . و ذكر صفوان بن عمرو عن بعض مشايخه قال : الجنة مائة درجة أولها : درجة فضة أرضها فضة و مساكنها فضة و ترابها المسك ، و الثانية : ذهب و أرضها ذهب و آنيتها ذهب و ترابها المسك ، و الثالثة : لؤلؤ و أرضها لؤلؤ و آنيتها لؤلؤ و ترابها المسك ، و سبع و تسعون بعد ذلك ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر ثم تلا " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون " . و في صحيح مسلم " عن المغيرة بن شعبة يرفعه : سأل موسى ربه قال : يا رب ما أدنى أهل الجنة منزلة ؟ قال : هو رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة فيقال له : ادخل الجنة . فيقول : يا رب كيف و قد أخذ الناس منازلهم ، و أخذوا أخذاتهم ؟ فيقال له : أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا ؟ فيقول رضيت يا رب ، فيقول لك ذلك و مثله و مثله و مثله ، فقال في الخامسة : رضيت يا رب ، فيقال : هذا لك و عشرة أمثاله ، و لك ما اشتهت نفسك و لذت عينك ، فيقول : رضيت يا رب ، قال : فأعلاهم منزلة قال : أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي و ختمت عليها ، فلم تر عين و لم تسمع أذن و لم يخطر على قلب بشر ، قال : و مصداقه في كتاب الله : " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين " " .
الثاني : ملاط الجنة : و أنه المسك الأذفر ، و قد تقدم مثل ذلك في غير حديث ، و الملاط : هو الطين ، و يقال : الطين الذي يبنى منه البنيان و الأذفر الخالص. ففي الصحيحين " عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : دخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ ، و إذا ترابها المسك " ، و الجنابذ : مثل القباب ، و قد قيل : إنه أراد بترابها ما خالطه الماء و هو طينها كما في صحيح البخاري " عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في الكوثر : طينه المسك الأذفر " ، و قد قيل في تأويل قوله تعالى : " ختامه مسك " : إن المراد بالختام : ما يبقى في سفل الشراب من التفل ، و هذا يدل على أن أنهارها تجري على المسك ، و لذلك يرسب منه في الإناء في آخر الشراب كما يرسب الطين في آنية الماء في الدنيا .
الثالث : حصباء الجنة : و أنه اللؤلؤ و الياقوت ، و الحصباء : الحصي الصغار و هو الرضراض . و في المسند " عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم في ذكر الكوثر : أن رضراضه اللؤلؤ " ، و في رواية : " حصباؤه اللؤلؤ " . و في الترمذي " من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم : أن مجراه على الدر و الياقوت " ، و في الطبراني " من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : حاله المسك الأبيض ، و رضراضه الجوهر ، و حصباؤه اللؤلؤ " . و في المسند " من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : حاله المسك ، و رضراضه التوم " . و التوم : الجوهر ، و الحال : الطين . قال أبو العالية : قرأت في بعض الكتب : يا معشر الربانيين من أمة محمد انتدبوا لدار أرضها زبرجد أخضر ، تجري عليها أنهار الجنة ، فيها الدر و اللؤلؤ و الياقوت و سورها زبرجد أخضر ، متدلياً عليها أشجار الجنة بثمارها .
الرابع : تراب الجنة : و أنه الزعفران ، و قد سبق في رواية أخرى : " الزعفران ، و الورس " . و قد قيل : إن المراد بالتراب ههنا : تربة الأرض التي لا ماء عليها ، فأما ما كان عليه ماء فإنه مسك كما سبق ، و سبق أيضاً في بعض الروايات حشيشها الزعفران و هو نبات أرضها و ترابها ، فأما حديث ترابها المسك : فقد قيل : إنه محمول على تراب يخالطه الماء كما تقدم ، و قيل : إن المراد : أن ريح ترابها ريح مسك ، و لونه لون الزعفران ، و يشهد لهذا حديث الكوثر : " إن حاله المسك الأبيض " فريحه ريح المسك ، و لونه مشرق لا يشبه لون مسك الدنيا بل هو أبيض ، و قد يكون منه أبيض و منه أصفر و الله أعلم و في صحيح مسلم " من حديث أبي سعيد : أن النبي صلى الله عليه و سلم سأل ابن الصياد عن تربة الجنة : فقال : درمكة بيضاء مسك خالص ، فصدقه النبي صلى الله عليه و سلم " . و رواية : أن ابن صياد سأل النبي صلى الله عليه و سلم و صدقه . و في المسند و الترمذي " عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : تربة الجنة درمكة ، ثم سأل اليهود ؟ فقالوا : خبزة ، فقال : الخبز من الدرمك " . و التي تجتمع به هذه الأحاديث كلها أن تربة الجنة في لونها بيضاء ، و منها ما يشبه لون الزعفران في بهجته و إشراقه ، و ريحها ريح المسك الأذفر الخالص ، و طعمها طعم الخبز الحواري الخالص ، و قد يختص هذا بالأبيض منها . فقد اجتمعت لها الفضائل كلها . لا حرمنا الله ذلك برحمته و كرمه .
و قوله صلى الله عليه و سلم : " من يدخلها ينعم لا يبأس ، و يخلد لا يموت ، لا تبلى ثيابهم ، و لا يفنى شبابهم " . إشارة إلى بقاء الجنة و بقاء جميع ما فيها من النعيم ، و إن صفات أهلها الكاملة من الشباب لا تتغير أبداً ، و ملابسهم التي عليهم من الثياب لا تبلى أبداً ، و قد دل القرآن على مثل هذا في مواضع كثيرة كقوله : " و جنات لهم فيها نعيم مقيم " ، و قوله تعالى : " أكلها دائم و ظلها " ، و قوله تعالى : " خالدين فيها أبدا " . في مواضع كثيرة . و في صحيح مسلم " عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من يدخل الجنة ينعم لا يبأس ، لا تبلى ثيابه ، و لا يفنى شبابه " . و فيه أيضاً عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : " إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد أن لكم أن تنعموا و لا تبأسوا أبداً ، و أن لكم أن تصحوا و تسقموا أبداً ، و أن لكم أن تشبوا و لا تهرموا أبداً ، و نودوا أن تلكم الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون " . و في رواية لغيره زيادة : " و أن تحيوا فلا تموتوا أبداً " . و في الترمذي مرفوعاً : " أهل الجنة جرد مرد كحل ، لا يفنى شبابهم ، و لا تبلى ثيابهم " . و " عن أبي سعيد مرفوعاً : يدخل أهل الجنة أبناء ثلاثين لا يزيدون عليها أبداً " . و من حديث علي مرفوعاً : " إن في الجنة مجتمعاً للحور العين يرفعن بأصوات لم يسمع الخلائق مثلها يقلن : نحن الخالدات فلا نبيد ، و نحن الناعمات فلا نبأس ، و نحن الراضيات فلا نسخط ، طوبى لمن كان لنا و كنا له " . و خرج الطبراني من حديث ابن عمر مرفوعاً : " إن مما يتغنين به الحور العين : نحن الخالدات فلا نمتنه ، نحن الآمنات فلا نخفنه ، نحن المقيمات فلا نظعنه " . و من حديث أم سلمة مرفوعاً : " أن نساء أهل الجنة يقلن : نحن الخالدات فلا نموت ، و نحن الناعمات فلا نبأس أبداً ، و نحن المقيمات فلا نظعن أبداً ، و نحن الراضيات فلا نسخط أبداً ، طوبى لمن كنا له و كان لنا " . و فيما ذكره صلى الله عليه و سلم في صفة من يدخل الجنة تعريض بذم الدنيا الفانية فإنه من يدخلها و إن نعم فيها فإنه يبأس ، و من أقام فيها فإنه يموت و لا يخلد ، و يفنى شبابهم ، و تبلى ثيابهم ، و تبلى أجسامهم . و في القرآن نظير هذا ، و هذا التعريض بذم الدنيا و فنائها مع مدح الآخرة ، و ذكر كمالها و بقائها كما قال تعالى : " زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين و القناطير المقنطرة من الذهب و الفضة و الخيل المسومة و الأنعام و الحرث ذلك متاع الحياة الدنيا و الله عنده حسن المآب * قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها و أزواج مطهرة و رضوان من الله و الله بصير بالعباد " ، و قال الله تعالى : " إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس و الأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها " الآية ، ثم قال : " و الله يدعو إلى دار السلام و يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم * للذين أحسنوا الحسنى و زيادة و لا يرهق وجوههم قتر و لا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون " ، و قال الله تعالى : " و ما هذه الحياة الدنيا إلا لهو و لعب و إن الدار الآخرة " الآية ، و قال الله تعالى : " و اضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح و كان الله على كل شيء مقتدراً * المال و البنون زينة الحياة الدنيا و الباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً و خير أملا " ، و قال الله تعالى : " اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب و لهو و زينة و تفاخر بينكم و تكاثر في الأموال و الأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته " ، إلى قوله : " سابقوا إلى مغفرة من ربكم و جنة عرضها كعرض السماء و الأرض أعدت للذين آمنوا بالله و رسله " ، و قال الله تعالى : " بل تؤثرون الحياة الدنيا * و الآخرة خير و أبقى " ، و قال الله تعالى : " أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل " ، و قال الله تعالى عن مؤمن آل فرعون أنه قال لقومه : " يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع و إن الآخرة هي دار القرار " . و المتاع : هو ما يتمتع به صاحبه برهة ثم ينقطع ، و يفنى فما عيبت الدنيا بأكثر من ذكر فنائها و تقلب أحوالها و هو أدل دليل على انقضائها و زوالها فتتبدل صحتها بالسقم و وجودها بالعدم ، و شبيبتها بالهرم ، و نعيمها بالبؤس ، و حياتها بالموت ، فتفارق الأجسام النفوس ، و عمارتها بالخراب ، و اجتماعها بفرقة الأحباب ، و كل ما فوق التراب تراب . قال بعض السلف في يوم عيد و قد نظر إلى كثرة الناس و زينة لباسهم : هل ترون إلا خرقاً تبلى ، أو لحماً يأكله الدود غداً ، كان الإمام أحمد رضي الله عنه يقول : يا دار تخربين و يموت سكانك . و في الحديث : " عجباً لمن رأى الدنيا و سرعة تقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها " . قال الحسن : إن الموت قد فضح الدنيا فلم يدع لذي لب بها فرحاً . و قال مطرف : إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم فالتمسوا نعيماً لا موت فيه . و قال يونس بن عبيد : ما ترك ذكر الموت لنا قرة عين في أهل و لا مال . و قال يزيد الهاشمي : أمن أهل الجنة الموت فطاب لهم العيش ، و أمنوا الاسقام فهنيئاً لهم في جوار الله طول المقام . عيوب الدنيا بادية و هي تغيرها ، و مواعظها منادية لكن حبها يعمي و يصم ، فلا يسمع محبها نداءها ، و لا يرى كشفها للغير و إيذاءها .
قد نادت الدنيا على نفسها لو كان في العالم من يسمع
كم واثق بالعمر أفنيته و جامع بددت ما يجمع
كم قد تبدل نعيمها بالضر و البؤس ، كم أصبح من هو واثق بملكها و أمسى و هو منها قنوط بؤوس . قالت بعض بنات ملوك العرب الذين نكبوا : أصبحنا و ما في الأرض أحد إلا و هو يحسدنا و يخشانا ، و أمسينا و ما في العرب أحد إلا و هو يرحمنا . دخلت أم جعفر بن يحيى البرمكي على قوم في عيد أضحى تطلب جلد كبش تلبسه و قالت : هجم علي مثل هذا العيد و على رأسي أربعمائة وصيفة قائمة و أنا أزعم أن ابني جعفراً عاق لي . كانت أخت أحمد بن طولون صاحب مصر كثيرة السرف في إنفاق المال حتى أنها زوجت بعض لعبها فأنفقت على وليمة عرسها مائة ألف دينار ، فما مضى إلا قليل حتى رؤيت في سوق من أسواق بغداد و هي تسأل الناس . اجتاز بعض الصالحين بدار فيها فرح و قائلة تقول في غنائها :
ألا يا دار لا يدخلك حزن و لا يزري بصاحبك الزمان
ثم اجتاز بها عن قريب و إذا الباب مسود و في الدار بكاء و صراخ ، فسأل عنهم ؟ فقيل : مات رب الدار ، فطرق الباب و قال : سمعت من هذه الدار قائلة تقول : كذا و كذا فبكت امرأة و قالت : يا عبد الله ، إن الله يغير و لا يتغير ، و الموت غاية كل مخلوق ، فانصرف من عندهم باكياً . بعث أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خلافته وفداً إلى اليمن فاجتازوا في طريقهم بماء من مياه العرب عنده قصور مشيدة و هناك مواش عظيمة و رقيق كثير و رأى نسوة كثيرة مجتمعات في عرس لهن و جارية بيدها دف تقول :
معاشر الحساد موتوا كمدا كذا نكون ما بقينا أبدا
فنزلوا بقربهم فأكرمهم سيد الماء و اعتذر إليهم باشتغاله بالعرس فدعوا له و ارتحلوا ، ثم إن بعض أولئك الوفد أرسلهم معاوية إلى اليمن فمروا بالقرب من ذلك الماء فعدلوا إليه لينزلوا فيه فإذا القصور المشيدة قد خربت كلها و ليس هناك ماء و لا أنيس و لم يبق من تلك الآثار إلا تل خراب ، فذهبوا إليه فإذا عجوز عمياء تأوي إلى نقب في ذلك التل فسألوها عن أهل ذلك الماء فقالت : هلكوا كلهم ، فسألوها عن ذلك العرس المتقدم فقالت : كانت العروس أختي و أنا كنت صاحبة الدف فطلبوا أن يحملوها معهم فأبت و قالت : عزيز علي أن أفارق هذه العظام البالية حتى أصير إلى ما صارت إليه فبينما هي تحدثهم إذ مالت فنزعت نزعاً يسيراً ثم ماتت فدفنوها و انطلقوا . حمل إلى سليمان بن عبد الملك في خلافته من خراسان ستة أحمال مسك إلى الشام فأدخلت على ابنه أيوب و هو ولي عهده فدخل عليه الرسول بها في داره فدخل إلى دار بيضاء و فيها غلمان عليهم ثياب بياض و حليتهم فضة ، ثم دخل إلى دار صفراء فيها غلمان عليهم ثياب صفر و حليتهم الذهب ، ثم دخل إلى دار خضراء فيها غلمان عليهم ثياب خضر و حليتهم الزمرد ، ثم دخل على أيوب و هو و جاريته على سرير فلم يعرف أحدهما من الآخر لقرب شبههما ، فوضع المسك بين يديه فانتهبه كله الغلمان ثم خرج الرسول ، فغاب بضعة عشر يوماً ثم رجع فمر بدار أيوب و هي بلاقع ، فسأل عنهم ؟ فقيل له : أصابهم الطاعون فماتوا . كان يزيد بن عبد الملك ـ و هو الذي انتهت إليه الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز ـ له جارية تسمى حبابة ، و كان شديد الشغف بها و لم يقدر على تحصيلها إلا بعد جهد شديد ، فلما وصلت إليه خلى بها يوماً في بستان و قد طار عقله فرحاً بها فبينما هو يلاعبها و يضاحكها إذ رماها بحبة رمان أو حبة عنب و هي تضحك فدخلت في فيها فشرقت بها فماتت فما سمحت نفسه بدفنها حتى أراحت ، فعوتب على ذلك فدفنها . و يقال : إنه نبشها بعد دفنها . و يروى : إنه دخل بعد موتها إلى خزائنها و مقاصيرها و معها جارية لها فتمثلت الجارية ببيت :
كفى حزناً بالواله الصب أن يرى منازل من يهوى معطلة قفرا
فصاح و خر مغشياً عليه فلم يفق إلى أن مضى هوي من الليل ثم أفاق فبكى بقية ليلته و من الغد فدخلوا عليه فوجدوه ميتاً . قال بعض السلف : ما من حبرة إلا يتبعها عبرة * و ما كان ضحك في الدنيا إلا كان بعده بكاء * من عرف الدنيا حق معرفتها حقرها و أبغضها كما قيل :
أما لو بيعت الدنيا بفلس أنفت لعاقل أن يشتريها
و من عرف الآخرة و عظمتها و رغب فيها . عباد الله هلموا إلى دار لا يموت سكانها ، و لا يخرب بنيانها ، و لايهرم شبابها ، و لا يتغير حسنها و إحسانها هواؤها النسيم ، و ماؤها التسنيم يتقلب أهلها في رحمة أرحم الراحمين و يتمتعون بالنظر إلى وجهه كل حين : " دعواهم فيها سبحانك اللهم و تحيتهم فيها سلام و آخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين " . قال عون بن عبد الله بن عتبة : بنى ملك ممن كان قبلنا مدينة فتنوق في بنائها ، ثم صنع طعاماً و دعا الناس إليه و أقعد على أبوابها ناساً يسألون كل من خرج هل رأيتم عيباً ؟ فيقولون لا حتى جاء في آخر الناس قوم عليهم أكسية فسألوهم : هل رأيتم عيباً ؟ فقالوا : عيبين ، فأدخلوهم على الملك ، فقال : هل رأيتم عيباً ؟ فقالوا عيبين ، قال : و ما هما ؟ قالوا : تخرب و يموت صاحبها . قال : فتعلمون دار لا تخرب و لا يموت صاحبها ؟ قالوا نعم ، فدعوه فاستجاب لهم ، و انخلع من ملكه و تعبد معهم . فحدث عون بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز فوقع منه موقعاً حتى هم أن يخلع نفسه من الملك فأتاه ابن عمه مسلمة فقال : اتق الله يا أمير المؤمنين في أمة محمد فوالله لئن فعلت ليقتتلن بأسيافهم ، قال : ويحك يا مسلمة حملت ما لا أطيق ، و جعل يرددها و مسلمة يناشده حتى سكن .
اللهم بلغنا الجنة وأجرنا من النار برحمتك ياعزيز ياغفار
@ ,wt hg[km