يقول جل شأنه وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ غافر ؛ ذلك لأن
رمضان شهر الصيام، وللصائم عند فطره دعوة لا تُرد، كما أخبر بذلك الذي لا ينطق عن الهوى
والدعاء من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب، ويكفي منه مع البر ما يكفي الطعام من الملح، كما قال أبو ذر رضي الله عنه، وهو مع البلاء يدافعه ويمنع نزوله ويرفعه أو يخفضه إذا نزل الداء والدواء لابن القيم، ص
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن
الدعاء له مع البلاء ثلاثة مقامات
أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه
أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء، ولكنه يخففه حتى وإن كان ضعيفًا
أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما الآخر
والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وهو سلاح المؤمن وعماد الدين، ولا يهلك مع الدعاء أحد
وللدعاء آداب يجب على الداعي أن يراعيها؛ فقد ورد عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه قال لجنوده «أنا لا أحمل هَمّ الإجابة، ولكن همّ الدعاء؛ ذلك لأن رب العالمين قد وعد الداعين بإجابة دعائهم، وهو سبحانه لا يُخلف وعده، فهو أصدق القائلين، وليس هناك أصدق من الله قيلاً
وفيما يلي بعض من هذه الآداب
الإخلاص
وهو من أهم الآداب وأوكدها؛ ذلك لأن الإجابة مشترطة بالإخلاص فتح الباري
يقول سبحانه فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ غافر ، ويقول جل شأنه وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ الأعراف ، والإخلاص في الدعاء يستوجب الاعتقاد بأن المدعو هو القادر وحده على قضاء الحاجات؛ حيث إن الوسائط في قبضته ومسخرة بتسخيره الجامع لأحكام القرآن
التوبة والرجوع إلى الله تعالى
فإن المعاصي من أسباب منع قبول الدعاء، لذا ينبغي على الداعي أن يبادر بالتوبة والاستغفار قبل دعائه؛ ليكون مؤهلاً لقبول دعائه؛ فإن الأنبياء والرسل كانوا يحثّون أقوامهم على التوبة والاستغفار؛ ذلك لأن الاستغفار والتوبة من أسباب نزول الغيث والإمداد بالأموال والبنين، قال نوح عليه السلام لقومه فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا نوح ، وقال هود عليه السلام لقومه وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا هود ، وفي الأثر «إن العبد ليُحرَم الرزق بالذنب يصيبه» ابن ماجه وحسنه الألباني
التضرع والخشوع والتذلل والرغبة والرهبة
وهذا هو روح الدعاء ولبّه ومقصوده، فرب العالمين يحب عبده إذا ابتلاه؛ تضرع إليه وتملق له، وتذلل وخشع، يقول جل شأنه ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ الأعراف
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله «وَمِنْ الْعُدْوَانِ أَنْ يَدْعُوَهُ غَيْرَ مُتَضَرِّعٍ؛ بَلْ دُعَاءُ هَذَا كَالْمُسْتَغْنِي الْمُدَلِّي عَلَى رَبِّهِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الاعْتِدَاءِ؛ لِمُنَافَاتِهِ لِدُعَاءِ الذَّلِيلِ فَمَنْ لَمْ يَسْأَلْ مَسْأَلَةَ مِسْكِينٍ مُتَضَرِّعٍ خَائِفٍ فَهُوَ مُعْتَدٍ وَمِن الاعْتِدَاءِ أَنْ يَعْبُدَهُ بِمَا لَمْ يَشْرَعْ وَيُثْنِيَ عَلَيْهِ بِمَا لَمْ يُثْنِ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَلا أَذِنَ فِيهِ؛ فَإِنَّ هَذَا اعْتِدَاءٌ فِي دُعَائِهِ الثَّنَاءُ وَالْعِبَادَةُ، وَهُوَ نَظِيرُ الاعْتِدَاءِ فِي دُعَاءِ الْمَسْأَلَةِ وَالطَّلَبِ» الفتاوى
الإلحاح والتكرار وعدم الضجر والملل
ويتحقق الإلحاح بتكرار الدعاء مرتين أو ثلاثًا؛ حيث كان من هدي النبي أن يدعو ثلاثًا ويستغفر ثلاثًا؛ فعن عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ يَدْعُوَ ثَلاَثًا وَيَسْتَغْفِرَ ثَلاَثًا أبو داود وضعفه الألباني
وهذا يخالف حال المخلوق الذي كلما أكثرت سؤاله وكررت حوائجك إليه؛ تبرم منك وثقلت عليه، وهُنْتَ عنده؛ ولذا قال القائل
فالله يغضب إن تركت سؤاله
وبني آدم حين يُسأل يغضب
الإكثار من الدعاء في الرخاء
فالعبد الصالح من شأنه أن يلازم الدعاء في حالة الرخاء والشدة، أما غير الصالح فإنه لا يلتجئ إلى الله إلا في وقت الشدة ثم ينساه، وهذا شأن من غفل قلبه عن خالقه ورازقه، يقول جل شأنه وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ يونس ، وقال عز من قائل وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا الزمر
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما «تعرَّف على الله في الرخاء؛ يعرفك في الشدة» أحمد وصححه الألباني
ومن عامل الله بالتقوى والطاعة في حال رخائه؛ عامله الله باللطف والإعانة في حال شدته» جامع العلوم والحكم ص
وفي الحديث «ومن سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب؛ فليكثر الدعاء في الرخاء» رواه الترمذي والحاكم وحسنه الألباني في صحيح الجامع
خفض الصوت بالدعاء
فمن آداب الدعاء المخافتة به، والإسرار به، وعدم الجهر به، قال سبحانه ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ الأعراف ، وفي الحديث عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ؛ فَكُنَّا إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى وَادٍ هَلَّلْنَا وَكَبَّرْنَا ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا؛ فَقَالَ النَّبِيُّ «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا، إِنَّهُ مَعَكُمْ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتَعَالَى جَدُّهُ» البخاري
وقال الإمام أحمد رحمه الله ينبغي للعبد أن يُسر دعاءه؛ لقوله تعالى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا قال أحمد هذا في الدعاء، حيث كانوا يكرهون أن يرفعوا أصواتهم بالدعاء» غداء الألباب للسفاريني
وفي دعاء نبي الله زكريا عليه السلام نادى ربه نداءً خفيًا، وقد وردت بعض الآثار تقول «يفضل دعاء السر على دعاء العلانية سبعين ضعفًا» أبو نعيم في الحلية
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله فوائد عدة لإخفاء الدعاء منها
أنه أعظم إيمانًا؛ لأن صاحبه يعلم أن الله يسمع الدعاء الخفي
أنه أعظم في الأدب والتعظيم؛ لأن الملوك لا تُرفع الأصوات عندهم، ولله المثل الأعلى
أنه أبلغ في التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء
أنه أبلغ في الإخلاص
أنه أبلغ في جمعية القلب على الله في الدعاء
أنه دال على قرب صاحبه إلى من يدعوه
أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال
أنه أبعد عن القواطع والمشوشات
أنه أبعد عن الحاسدين؛ لأن من أعظم النعم الإقبال على الله، ولكل نعمة حاسد
أن الدعاء ذكر، وقد أمر سبحانه بإخفاء الذكر، فقال سبحانه وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً الأعراف مجموع الفتاوى
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
ادعو لكاتبه وناقله
hg]uhx td vlqhk