[TABLETEXT="width:70%;background-image:url('http://www.gnanim.com/vb/backgrounds/21.gif');"]
|
كثرة الشكوى
د. عمر عبدالكافي
بتصرف من حلقات آفات اللسان
آفة خطيرة تعصف بكثير منا وهي كثرة الشكوى، تجلس مع أي إنسان رجلاً كان أم امرأة صغيراً كان أم كبيراً وتقول له كيف حالك يا فلان وإذا به سبحان الله وكأنه ينتظر السؤال، الزوج يشكو من زوجته، والزوجة تشكو من زوجها وأولادها، والأبناء يشكون من عدم فهم الآباء لهم، وعدم تفرغ الأب للجلوس معهم، والأم تشكو أن الرجل مقصر في كذا وكذا والبنت لا تذاكر دروسها ولا تحترم أمها ولا تجل أباها إلى غير هذا.وإذا سألت صاحب العمل كيف حالك يقول: والله يا أخي العمال متعبين والموظفين لا يتقون الله رب العالمين، وكذلك الحال إذا سألت من يعمل عنده عن رئيسه أو مديره في العمل، سبحان الله! الكل يشكوا من الكل.وإن لم يجد الإنسان ما يشكوا منه ربما يشكوا من الطقس ومن الجو، هذا يوم شديد الحرارة، هذا يوم شديد الرطوبة، وكأن للأسف الشديد الشكوى صارت ملازمه لكثير منا، لماذا تكثر الشكوى؟ لأن الرضى عندما يتبخر من قلب العبد، البديل أن تحل الشكوى محله، يعني إذا تبخر الرضى وقل، قلت جرعة الرضى وقل الشعور بالرضى في قلب الإنسان المسلم، كثرت شكواه، يعني الإنسان لما يستقرأ التاريخ ويرى كيف كان صحابة الحبيب صلى الله عليه وسلم والتابعون وتابع التابعين رضوان الله عليهم جميعا، ما كان أحد منهم يشكوا إلا إلى الله سبحانه وتعالى،
لماذا اختفت الشكوى من ألسنتهم ولماذا ابتلينا نحن بهذه الكارثة أو بهذه الآفة؟
........
أولاً: المسلم لو فقه حقيقة الرضى لتبخرت الشكوى من عنده، وتلاشت الشكوى من فوق لسانه، يعني العبد عندما يفقه قضية الرضى يرضى بأمرين:
· يرضى بما يأمره الله به.
· ويرضى بما يقدره ربه عليه.
الله عز وجل يقدر لي أمر ما: مرض، ضنك في المعيشة، قلة رزق، يعني فشل في أمر ما، برغم أن الإنسان قد يكون مثلاً قد طرق الأسباب ولكن الله لم يقدر، عندئذ يرضى ويقول لابد أن يكون هذا الأمر خيراً إن شاء الله، يعني كما قلنا من قبل أن يعقوب عليه السلام لما فقد ابنه الأثير لديه يوسف ابيضت عيناه من الحزن، فلما فقد ابنه الثاني بنيامين كان من الأمور المنطقية أن يزداد حزن ويأس وإحباط يعقوب عليه السلام، لكن الأعجب أن الأمل زاد! يعني ادلهمت الخطوب، وكثر الحزن، وازداد الأسى بفقده لابنه الثاني، بعد أن حجز هناك في مصر وعادوا من غيره، وبهذا افتقد اثنين من أبنائه، مع هذا سبحان الله ازداد الأمل عنده وقال : ( يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف:87).
فأشد ساعات الليل ظلاما هي الساعة قبل طلوع الفجر ثم يأتي الفجر بعدها إن شاء الله، لذلك
قال المتفائل العربي:
يا رفيقي نحن من نور إلى نور مضينا ومع الفجر ذهبنا ومع الفجر أتينا
أينما يدعى ظلام يا رفيق الليل أين إن نور الله في قلبي وهذا ما أراه
هذا إنسان امتلأ قلبه بالرضى، وبالتالي الرضى والشكوى يعني أمران متضادان تماما، فإذا غلب الرضى على القلب قلت الشكوى على اللسان، وإذا تبخر الرضى من القلب ظهرت
الشكوى على اللسان، فكثرة الشكوى من قلة الرضى،
ولذلك يقول أهل العلم: إن جذور الرضى عن الله تعالى: إن أعطاني قبلت وإن منعني رضيت وإن دعاني أجبت
أن الرضى يعتبر من المقامات الكبيرة العجيبة، في الدنيا هناك رضى وهناك خوف وهناك رجاء، الرجاء والخوف يزولان في الجنة، يعني لا يصير هناك لا رجاء ولا خوف، ولكن الرضى يكون مع الإنسان حتى يوم القيامة، والرضى عبر الله عنه في القرآن؛ فكما قلنا : إذا كثرت الشكوى على ألسنة الناس ذهب الرضى عنهم بعيداً، انظر إلى الذي رضي بما قدره رب العباد سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (الأنعام: من الآية14), (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ) (الأنعام: من الآية164)، (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً ) (الأنعام: من الآية114) هذا إنسان عندما يقرأ كلام الله عز وجل يستشعر هذا الرضى، لا أتخذ وليا غير الله، لا أبغي ربا غير الله، لا أبتغي حكما إلا الله سبحانه وتعالى في صغير الأمر و كبيره، و لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "و أسألك الرضى بعد القضاء" (2)، لأن الرضى قبل القضاء عزم على الرضى، أما بعد القضاء هو الرضى بذاته أو الرضى بعينه
.
الإنسان الذي يكثر من الشكوى يجب أن يضع أمامه عدة محاور حتى تختفي الشكوى من فوق لسانه:
العبد يجب أن يعلم أنه مفوض، والإنسان المفوض راض بكل اختيار يختار له، الأمور التي تأتي كابتلاءات للعبد فيشكوا منها، أنه لا تبديل لخلق الله، هذا من خلق الله سبحانه وتعالى، هذا من أمر الله عز وجل، يجب أن أعلم أنه لا تبديل لخلق الله.
ويجب أن أعلم أنني عبد محض، فإذا اختبرني رب العباد سبحانه وتعالى، فلا أتسخط جريان الأحكام عليه.
و إذا كان كل واحد منا يدعي محبة الله، فالمحب الصادق راض بكل ما يعمله به حبيبه، حتى وإن لم يفهم.
ثم إنني عبد محدود الفكر محدود العقل، لا أدري ما الغيب؟ ما هي عواقب الأمور؟
فأنا إنسان أجهل عواقب الأمور، والله عز وجل هو سيدي ومولاي، هو الذي يعرف مصلحتي في صغير الأمر وكبيره.
كل واحد فينا يقول: أنا مسلم أنا مسلم، هل ندري ما معنى أنني مسلم؟ مسلم، يعني: سلمت نفسي لله رب العالمين، فقد بعت نفسي ومالي لله، كما في قول الله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (التوبة: من الآية111). فإذا باع الإنسان نفسه وما له لله، فلماذا لا يسلم نفسه لله عز وجل؛ ليفعل الله عز وجل به ما يشاء، ولن يفعل الله به إلا خيراً.
وبعدين العبد عندما يشكو لا تحل المشكلة، بل المشكلة ربما تزداد تعقيداً وربما تذهب بي بعيداً، لكن إذا أنا رضيت، تخف حدة المشكلة. وهنا الرضى ينزل على القلب السكينة، فتبرد حدة الشكوى ويفتح لي باب السلامة، ويجعلني عندما أرضى أخرج هواي من قلبي، يعني: يكون هواي تبعاً لما يرضي الله عز وجل.
فاعلم أن كل إنسان يخالف الشرع عديم الرضى؛ لأن الإنسان الذي يرتشي، ويأخذ حراماً، لم يرض بما قسمه الله له من راتب أو من مال، الإنسان الذي يتكسب من سحت ومن حرام، والعياذ بالله رب العالمين، لم يرض بما قسمه الله له من مال.الإنسان الذي يتعدى على حدود الآخرين، سواء بالنظر إلى ما حرم الله، أو غير ذلك، لم يرض بما قسم الله له من حلال عنده، ولذلك ندعو رب العباد عز وجل، ونقول في كل دعاء: ماض في حكمك عدل في قضاؤك.
الإنسان كلما أعمل قلبه في مسألة الرضى فقضية الشكوى تختفي، إن العبد المتسخط الشاكي كلما جلست معه يشكو دائماً في صغير الأمر وكبيره، فيجب أن يرضى ويعلم نفسه الرضى.
قال أبو الفوارس جنيد بن أحمد الطبري:
العبد ذو ضجر والرب ذو قدر والدهر ذو دول والرزق مقسوم
والخير أجمع فيما اختار خالقنا وفي اختيار سواه اللوم والشوم
"فالعبد ذو ضجر والرب ذو قدر": العبد قليل الرضى، يتضجر من الأمور ويمل كثيراً، وخلق من عجل، ويريد أن يحقق الأمر كما يريد بهواه هو، ولا يعلم أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يختار له ما يعود عليه بالخير.
الإنسان الكثير الشكوى، هو إنسان يتعب نفسه، ويتعب من حوله، يعني: أنت جلست تشكو من زوجتك مثلاً، أو من أبنائك لصديق أو لأخ لك، بعد أن انتهت المسألة ما الذي كسبته؟! ما الذي عاد عليك؟! فلن يستطع أخوك أن يغير لك سوء خلق زوجتك مثلاً. أنت أخت الإسلام جلست في كل صغيرة وكبير ة مع صديقاتك، أو مع أمك، أو مع أختك، أو جارة لك، فجلست تشكو لها من صنع أهل زوجك معك مثلاً، هل حلت المشكلة؟! أبداً لم تحل المشكلة، بل على العكس هتكت الأستار، الأسرار أصبحت خارج البيوت، أصبحت هناك تحت عنوان الخيانة؛ كما قال رب العباد سبحانه وتعالى: (وامْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) (التحريم: من الآية10).هذا الأمر لم يعد عليك ولا على بيتك بالخير، بالعكس أدخلت نفسك في غيبة، وفي نميمة، وفي تصغير أهل الزوج أمام الآخرين، أو العكس.
نقول هذا الكلام للأزواج كليهما، سواء الزوج أو الزوجة، سواء الرجل أو المرأة، الصغير أو الكبير، عندما تشكو للإنسان فأنت تشكو الذي يرحم للذي لا يرحم، تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك؛ لأن من الذي يعطيني؟! الإنسان إذا ألزم نفسه الرضى تبتعد الشكوى عن لسانه.
ولذلك العلماء قسموا الرضى إلى رضى العوام ، ورضى الخواص، ورضى خواص الخواص.
فالعوام رضاهم أن يرضى بما قسمه وأعطاه ربه.
أما الخواص فيرضون بما قدره الله سبحانه وتعالى وقضا.
أما رضى خواص الخواص فهو رضاهم بالله سبحانه وتعالى بدلاً من كل ما سواه، فلا يرضى بغير الله رباً ولا يرضى بغير دين الله ديناً.
إذا أخوة الإسلام، هلا ملأنا قلوبنا رضى حتى تختفي آفة الشكوى من فوق ألسنتنا؟!
عسانا نصنع هذا ونستعين بالله رب العالمين.
| [/TABLETEXT]
;evi hga;,n