إن الحمد لله.....، أما بعد:
بين فترة وأخرى نختار حديثاً من أحاديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ونقف عنده، وسبق أن ذكرنا بأن كل حديث من أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- يناسب أن يكون موضوع خطبة أو محاضرة أو درس يقدم للناس، فمن كلامه يمكن أن يتعرف الناس على واقعهم، ومقدار القرب والبعد عما يريده الله منهم.
حديثنا هذا اليوم هو حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- في مسند الإمام أحمد وبسند صحيح، قال: "قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
((كيف أنت إذا بقيت في حثالة الناس؟)) قال: قلت: يا رسول الله كيف ذلك؟ قال:
((إذا مَرِجت عهودهم وأماناتهم، وكانوا هكذا)) وشبك بين أصابعه، قال: قلت: ما أصنع عند ذاك يا رسول الله؟ قال:
((اتق الله -عز وجل-، وخذ ما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بخاصتك، وإياك وعوامهم)).
ومن عجيب فقه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- أنه أورد هذا الحديث تعليقاً في كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، ورواية الإمام أبي داود في كتاب الملاحم، قال:
((كيف بكم وبزمان؟ أو يوشك أن يأتي زمان يغربل الناس فيه غربلة، تبقى حثالة من الناس، قد مرجت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا فكانوا هكذا))
وشبك بين أصابعه، فقالوا: كيف بنا يا رسول الله؟ فقال:
((تأخذون ما تعرفون، وتذرون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم، وتذرون أمر عامتكم)).
وفي رواية: قال: "بينما نحن حول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ ذكر الفتنة فقال:
((إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم، وكانوا هكذا)) وشبك بين أصابعه، قال: فقمت إليه فقلت: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فِداك؟ قال:
((إلزم بيتك، وأملك عليك لسانك، وخذ ما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة)).
أول نقطة في هذا الحديث العظيم ينبغي الوقوف عندها: قوله:
((كيف أنت إذا بقيت في حثالة من الناس؟)) .
الحثالة: هي التي في آخر الإناء.
والحثالة: هو الردئ من كل شيء، فحثالة التمر هو أردؤه، وما لا خير فيه، وكذلك
الحثالة من الناس هم أراذل الناس وشرارهم وسفلتهم، وهم الذين لا خير فيهم، نعم أيها الأحبة إن فئة من الناس قد يصلون إلى هذا الأمر، الذي ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- حثالة من الناس، ولا أظنك أخي المسلم محتاج إلى كبير جهد لكي تجد بعض أفراد هذا الصنف من الناس، ومع كل أسف، فإن هذه الحثالة بدأت تنمو وتزداد وتتكاثر، حثالة في كل طبقة، وحثالة في كل ناحية، هذه الحثالة لا يهمها أمر الناس، لا يهمها إصلاح وضع، ولا يهمها إزالة خطأ، ولا يهمها نشر وعي وخير بين الناس؛ لأنهم حثالة، يعيشون لبطونهم، ويعيشون لشهواتهم، ولا يهمهم إلا أنفسهم، المهم أن يبقى ويأكل ويشبع ويجمع وما سوى ذلك، فليس في تفكيره كم أيها الأحبة ممن نعرف وممن لا نعرف، بهذه الصفة، لا تهتم الواقع، ولا يؤلمها آلام الغير، ولا تكترث لأحد، ينام ملئ عينه، ويأكل ملئ بطنه، ويضحك ملئ فمه، وبعد ذلك فليحصل ما يحصل إذا كثر هذا الصنف من الناس في مجتمع أو بلد أو أمة، فإن هذا مؤذن بخطر المسلم، لا ينبغي له أن يعيش لنفسه فحسب، إن هذا هو عيشة الحيوانات والبهائم.
الأصل في المسلم أن يعيش لغيره؛ لأنه لا ينظر فقط إلا عمر هذه الحياة الدنيا، بل هو يعتقد بأمور وقضايا وراء هذا العالم المحسوس، الحثالة من الناس هم الذين يعيشون لأنفسهم ولا يفكرون إلا في ذواتهم، لا يهمهم لو زاد المنكر، ولا يهمهم كذلك لو نقص الخير، لا يحزنون لو مات عالم، ولا يفرحون لو ولد عالم، الحثالة من الناس لا يتفاعلون مع أحداث الأمة، لا يقلقون لتغريب، ولا ينزعجون بتطبيع، فاحذر أخي المسلم أن تكون من هذه الحثالة، فإنك ما خلقت لتكون حثالة، وما أصبحت مسلماً وانتسبت إلى أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- لتكون من حثالة الناس، بل الذي يطلبه منك الإسلام أن تنظف المجتمع من الحثالة، لا أن تبقى معها، وتسير في ركابها.
ثم ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئاً من حال هذه الحثالة فقال:
((قد مرجت عهودهم وأماناتهم)) أي اختلفت وفسدت، لا عهد لهم ولا أمانة.
وقد شبه النبي -صلى الله عليه وسلم- الحال الذي يصل إليه الناس إذا فسد العهد، وفسدت الأمانة بالاضطراب والتشابك، وتعقد الأمور فشبك النبي -صلى الله عليه وسلم- بين أصابعه؛ لكي يعطي تصوراً للواقع الذي تصل إليه الأمة، وأي سوء لواقع ولوضع لا يعرف فيه الأمين من الخائن؟ ولا يعرف البر من الفاجر؟ ولا الصالح من الكالح؟ أي مصيبة لوضع، تكثير فيه الخيانات، وتضعف فيه العهود على مختلف الطبقات والمستويات، ويكثر فيه القيل والقال، يصل الحال إلى حد التشابك، التشابك في التصورات، والتشابك في الرؤية، والتشابك في معرفة العلاج لكثير من صور الخيانات، ونقض العهود، كيف يكون حال الأمة إذا أصبحت الخيانة هي السلعة الرائجة؟ وكيف حال مجتمع يقدم فيه الخائن، ويؤخر الأمين؟.
حقاً إنها لمأساة، ما أسوأه من حال، وما أفسده من وضع، ولهذا خاف الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن يدرك ذلك الوضع، وحُق له أن يخاف، فسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن المخرج والحل، وماذا يصنع عند ذاك؟ وفي رواية قال: "فقمت إليه فقلت: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟" وهذا هو المطلوب من المسلم أن يسأل أهل العلم، وأن يأخذ بآراء أهل الخبرة والفقه في الأمور، وأن يلجأ إلى العلماء في حال الفتن، واشتباك الأمور، ولا ينفرد هو برأيه وعقله، فماذا كان العلاج النبوي لذلك الصحابي الجليل حول مرج العهود والأمانات والتشابك والاضطراب في حال الناس.
قال -صلى الله عليه وسلم-:
((اتق الله -عز وجل- وخذ ما تعرف ودع ما تنكر، وعليك بخاصتك وإياك وعوامهم)) إن هذه الوصفة النبوية اشتملت على خمس فقرات، كل فقرة تحتاج إلى خطبة مستقلة.
فأولاً: قال: ((اتق الله -عز وجل-)).
والتقوى في مثل هذه الحالات هو العاصم بأمر الله -عز وجل-، التقوى: وصية الله للأولين والآخرين، وهل تظن أخي المسلم أن من يحمل التقوى تختلط عهودهم؟ هل من يحمل التقوى تحصل منه خيانة لنفسه أو لدينه أو لبلده؟ التقوى ليست كلمات تردد، ولا تسابيح تعد، التقوى أخي المسلم أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.
التقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل.
التقوى هي العاصم إذا تداعت الخطوب، وادلهمت الأمور، وضاقت المسالك
{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} [(2) سورة الطلاق]
{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [(4) سورة الطلاق] إذا اشتبكت الأمور بالتقوى هي الفرقان
{يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} [(29) سورة الأنفال].
ثم قال -صلى الله عليه وسلم- بعدما أكد على مسألة التقوى قال:
((خذ ما تعرف، ودع ما تنكر)) نعم خذ ما تعرف، والذي لا تعرف أو فيه شك فهذا دعة.
ما هي مشكلة الأمة الآن من حثالة الناس، المشكلة أن هذه الحثالة لا تتورع فيما تأخذ، ولا تتقي الله فيما تأخذ، هدفها الأخذ، شيء من الحلال، والباقي والغالب -نسأل الله العافية- من الحرام.
وهذا أخي المسلم أحد النتائج المترتبة على المجتمع الذي قد اختلط وفسد فيه عهود الناس وأماناتهم، إذا قلت الأمانة عند الناس أو انعدمت عند البعض الآخر فإنه لا يتورع حينئذٍ فيما تأخذ وفيما تدع، كم في المجتمعات من أبرياء ومساكين، يشتكون أنهم قد سلبت حقوقهم، وأخذت أموالهم، فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى خذوا ما تعرفون، ودعوا ما تنكرون، وإياكم ثم إياكم من مواطن الشبهات، والقضايا المشكوك فيها، وما أكثرها في هذا الزمان، فكل لحم من السحت فالنار أولى به.
وأغلب الناس إنما يُأتون ما باب المشتبهات، وهي القضايا والأمور التي لا يتضح فيها الحلال من الحرام، ولهذا جاء التحذير النبوي من الخوض في مثل هذه الأمور ففيما رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
((إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه)).
اعلم كذلك أخي المسلم بأن ما تأخذ وما تدع لا ينحصر في الأمور المادية فحسب، بل كن على حذر حتى في القضايا والأمور المعنوية، فلا تأخذ إلا ما تعرف، ودع ما تنكر، بل ينبغي الحذر فيها أكثر من الحذر في الماديات في بعض الأحيان، فلا تأخذ من الأخلاق والأفكار والتصورات والمعاني إلا ما تعرف أنه من شريعة رب العالمين، وما سواه فدعه لأنه منكر.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، واتباع سنة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم...
الشيخ/ ناصر بن محمد الأحمد